التفضيل بالنفاق في مصر! (2/2)

ياسين المصري
2024 / 1 / 22

من طبيعة العمل السياسي والاجتماعي في أية دولة من دول العالم قديما وحديثا أنه يتسم بالصراع على السلطة والنفوذ والقوة وتحقيق المصالح الشخصية، وقد تمكنت النظم الديموقراطية من حسم هذا الصراع إلى حد كبير بأسلوب سلمي من خلال المؤسسات والأحزاب الشعبية القوية والفعَّالة، وسن القوانين الملائمة لضبط تلك الصراعات، أمَّا في مصر فقد بدأ هذا الصراع يشتد منذ اغتصب العسكر السلطة في عام 1952، وانفراد الحاكم العسكري بكل أساليب القوة في الدولة، واستعماله العنف والقهر والاستبداد كوسيلة لكبت معارضيه، الذين يطمحون إلى الاستحواذ على السلطة، ويرون أنفسهم أفضل وأحق منه في السيطرة والانفراد بالنفوذ والثروة والقوة في البلاد، متبعا في كبتهم أساليب الغدر والخيانة والعنف الذي يصل في الغالب إلى حد القتل. هذه الأساليب وغيرها نجدها مؤرَّخة في سلسلة كتب للمؤرخ المصري الدكتور عبد العظيم رمضان (1925 - 2007م) حيث تحدَّث فيها عن هذا الصراع باستفاضة، خلال فترات تاريخية محددة منذ عام 1952 وحتى عصر مبارك.
***
في عهد الجنرال الحالي وصل كبت الصراع السياسي والاجتماعي مستويات غير مسبوقة، فجميع الدلائل تشير بوضوح إلى أنه عندما اغتصب الحكم في عام 2013، كانت لديه مخطط يتحتم عليه تنفيذه، وكانت في نيته أهداف معينة وأفكار مسبقة عن كيفية تنفيذها بأي ثمن. لذلك بدأ منذ بداية عهده بتوسيع شبكة السجون في البلاد استعداداً لتنفيذ مخططه باستعمال وسائل العنف المفرط والقهر الغير مبرر ضد المواطنين وكل من يناوئه في السلطة المطلقة. لم يكتف بتكميم أفواه العوام وحدهم، بل ومنع أيضًا العلماء المتخصصين في الجامعات ومراكز البحث العلمي والأدباء والنشطاء السياسين من مجرد التفكير في المشاركة بآرائهم في الحياة العامة، وذلك حتى لا يسيئون إلى المنافقين والحمقى والأغبياء!، ويعيش الجميع في سلام مزيف ووئام كاذب، وأن يعمل كل منهم لحسابه الخاص فقط، لا يعنيه من الحياة سوى نفسه. تسبب هذا النهج السلطوي في تزايد أعداد المنافقين، وشعورهم بالقوة والريادة في حماية السلطة الغاشمة!، وبذلك أصاب النفاق الأفراد والمؤسسات الرسمية والشعبية على حد سواء، حتى أنه أصبح يبدد أية فرصة محتملة للتطوير والتحديث في المجتمع، لأنه يضع الجميع في حالة من النشوة المصطنعة والانبهار الخادع بالنجاحات أو الإنجازات الوهمية التي يصنعها النفاق والمنافقون وقد تسللت إلى وجدانهم وأفكارهم، فعمدوا إلى طمس الحقائق بالأوهام والصدق بالأكاذيب. وسلكوا جميعًا دروب الغباء والبلادة واللامبالاة في ظل الطغيان، يتجاهلون حقيقة أن الإعلام أصبح مفتوحا على مصراعيه، وأن ثورة الإتصالات المعولمة جارفة في كل الاتجاهات، وأن النفاق وتسويق الضلالات وتغليف الأكاذيب بضاعة لم يعد لها سوق في عالم اليوم.
***
من الثابت فعليا أن جميع الدول المتحضرة قد أصبحت على قناعة تامة بأنها لن تتقدم أو تحافظ على تقدمها ما لم يتم ربط العلم بفروعه المختلفة بالحياة الجتماعية بشتَّى فروعها، والعمل من خلاله على تطوير أوضاع مواطنيها من الناحيتين المادية والمعنوية، فمن المفترض في رجل العلم أن يكون وفيا لعلمه، فلا يكذب ولا ينافق ولا يتردد في المصارحة، بينما الدول المتخلفة وفي مقدمتها مصر تعمل قدر المستطاع على إبعاد العلم عن الحياة، وحصره في الجامعات والمراكز العلمية بعيدا عن متناول السياسة والاقتصاد والمجتمع بأسرة. وعندما حاول بعض أساتذة العلوم المتخصصين مثل الدكتور حسن نافعة، وهو الرئيس السابق لقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أو الدكتور حازم حسنى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن يدليا برأيهما فيما يجري العمل به في البلاد، قامت سلطات الأمن بالقبض عليهما، وتوجيه التهم الجاهزة والمعلبة إليهما، وهي دائمًا: مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لبث ونشر أخبار وإشاعات كاذبة تحض على تكدير الأمن العام، .
***
لم يتوقَّف مزاد النفاق في مصر عند شيوخ السلطان وحدهم، وإن كانوا هم أول من بادر إلى فتح أبوابه على مصراعيها، لإعتقادهم أنهم يخاطبون شعبا جاهلا ومتدينا بطبعه، فالإعلاميون المزعومون والصحفيون المزيفون سارعوا بدورهم إلى اتخاذ مكانة متقدمة في هذا المزاد، وهي النفاق المهني أو الاحترافي رغم سقمه وغبائه! مما حمل الدكتور أيمن منصور ندا وهو رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وحاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الرأي العام والإعلام الدولى من جامعة القاهرة، وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة الأمريكيه بالقاهرة وجامعة جورجيا الأمريكية، ودبلوم فى إدارة المؤسسات الجامعية من سيراكيوز الأمريكية، على كتابة مقالين الأول بعنوان: رسالة مفتوحة إلى رئيس تحرير مصر ، الذي يوجّه الإعلام، وهو شخصية شديدة الغموض برتبة مقدم في الجيش إسمه ” احمد شعبان“، وقال الدكتور ندا: « في المجال الإعلامي.. أحمد شعبان لا شريك له.. أحد احد .. يعز من يشاء، ويذل من يشاء.. يهب الملك والنفوذ لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء.. وهو على كل شيء قدير!.. بأوامره تدار المنظومة الإعلامية.. وبرؤيته تتم معالجة كل القضايا.. علاقاته ممتدة.. ونفوذه متسع.. وسلطانه قوي.. وله شخصية قائدة تفرض سطوتها على الجميع.. كل المستبعدين من العمل الإعلامي يكرهون الرجل.. ويعرفون أنه وراء ذلك، ولا أحد غيره.. وكل العاملين في المجال يخشون غضبته، ويرقبون إشاراته .. وينفذون حرفياً تعليماته.. وكثير منهم يتطوع، ويُجَوِّد في تنفيذها ويضيف لها، في محاولة لكسب وده، أو على الأقل اتقاء شره.. لا أحد يخرج عن سلطانه ونفوذه..»
وقال ندا: « الرئيس عبد الناصر كان له إعلاميوه والمؤمنون به .. والرئيس السادات كان له إعلاميوه والمؤمنون به.. والرئيس مبارك كان له إعلاميوه والمؤمنون به.. حتى الرئيس مرسي كان له إعلاميوه والمؤمنون به.. كل رئيس صنع إعلامييه على عينه وساندهم.. الوحيد الذي ليس له إعلاميون هو الرئيس السيسي .. إعلاميوه أكلوا على كل الموائد السابقة ويفتخرون بذلك.. والملتفون حول مشروعه الإصلاحي ماضيهم الإعلامي غير مشرف.. ومن كان منهم صاحب رأي أو رؤية تم تحديد إقامته في البيت أو نفيه من البلاد.. ليس للرئيس السيسي ظهير إعلامي خاص به.. كثير من المتحدثين عن الرئيس السيسي يسحبون من رصيد شعبيته لدى الناس حتى كاد ينفد.. ويخصمون من مخزون محبته لدى الناس حتى بدأ الناس في التململ والتوجع.. الإعلاميون هم وحدهم المستفيدون.. والخاسر هو الرئيس السيسي.. والخاسر هو الوطن.. كثيرون حول مصالحهم .. قليلون حول الوطن».
من الملاحظ في المقطع السابق أن الدكتور ندا حاول أن يتجاهل الحقيقة، ويتملق الحاكم، فإذا كان لكل من عبد الناصر وخلفائه ظهير إعلامي خاص به، فإن الحاكم الحالى له جميع الأظهر الإعلامية بكل فروعها، وقد تم ”تبويرها“ فلا تضم سوى البور من الإعلاميين المزيفين، والأشخاص الفاسدين الهالكين الذين لا خير فيهم ممن لا رأي ولا رؤية له، وما عداهم تم تحديد إقامته في البيت أو نفيه من البلاد.
الواقع أن الكثيرين كانوا على معرفة بقصة الإملاءات الإعلامية من قبل المقدم السابق الذكر، ولكنها ظهرت للعلن عبر خطأ عفوي من المذيعة نهى درويش، حيث فضحت جانبا مما يجري إرساله عبر الـ"واتساب"، حينما تلت على الهواء في إحدى الفضائيات المحلية بيانا حول وفاة الرئيس الراحل محمد مرسي، ثم ختمت قراءة البيان بعبارة "وتم الإرسال من جهاز سامسونغ".
أما المقال الثاني للدكتور ندا فقد جاء أكثر قوة وقد حمل عنوان: "إعلام البغال والحمير"، وفيه سخرية ولكنها موضوعية، ربما لإحساسه بعدم جدوى ما يقوله، قال: « إعلام البغال هو إعلام أقرب إلى “لوسي ابن طانط فكيهة”.. لا يمكن الإشادة به كرجل، ولا يمكن الإعجاب به كسيدة.. هو إعلام بلا نخوة، ولا شهامة، ولا قوة، ولا فعالية.. وتصدق عليه مقولة الفنان “يوسف وهبي”: “بالذمة مش حرام يتحسب علينا راجل؟”..!!» واستطرد الدكتور ندا قائلا: « لماذا يتم تسويق البغال لنا على أنها خيول عربية أصيلة؟ لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية؟ لماذا ندفع ثمن الخيل ونرضى بالبغال؟!»
وقال: « إعلامنا مطية “يركبها” من يملك المال أو من يتولى الحكم أو هما معاً، ولا عزاء للمواطنين ..»
وعلى إثر ذلك تم اعتقال الرجل وتقديمه للمحاكمة بنفس التهم الجاهزة والمعلبة حتى لا يحاول أحد التطاول على منظومة النفاق الإعلامي مرة أخرى.
***
استمر «إعلام البغال والحمير» في منظومته، فخرج علينا الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي (ت 2022)، في مهزلة انتخابات عام 2018، خلال برنامج يبث على قناة “القاهرة والناس” المصرية، ليقول :« مستعد ألحس الأرض اللي هيمشي عليها (يقصد السيسي) وأبلع الزلط وأطبل بس مايجيش خيرت الشاطر ثاني».
كما يسارع الكاتب الصحفي محمد الباز من جانبه للإشادة بآداء السيسي، مؤكدًا أن أهم ما يميزه من صفات هو “الاستقامة”!. وقال، في لقاء مع برنامج “صالة التحرير” الذي تقدمه الإعلامية عزة مصطفى: « الصفة الأكثر وضوحًا في شخصية عبد الفتاح السيسي هي الاستقامة.. لا بيلاوع ولا بيزين الكلام ولا بينافق.. حتى هو قال جملة امبارح وهي (هستفيد ايه بالشعبية لو سيبت البلد خربانة)».
وأضاف: « الرئيس دخل الرئاسة بشعبية جارفة وصلت به إلى درجة الأسطورة، ووضعه المصريون في مصاف أولياء الله الصالحين أصحاب المعجزات.. أنا بالنسبة لي بنظر له حتى هذه اللحظة على أنه ولي من أولياء الله الصالحين”.
أهل الفن أدلو أيضا بدلوهم في بئر النفاق والرياء، إذ قالت الفنانة حنان شوقي خلال لقائها في برنامج “صباح On على قناة On Tv، في 9 أكتوبر 2014: « إن أخلاق عبد الفتاح السيسي مشابهة لأخلاق عمر بن عبد العزيز». وأشارت إلى ضرورة الاقتداء بما يفعله الرئيس لأنه قدوة واجبة الاتباع من المصريين، كما كان عمر بن عبد العزيز قدوة لكل المسلمين.
وبالطبع لم يسألها أحد عمن هو عمر بن عبد العزيز هذا وكيف كان عهده وإلى ماذا آلت إليه حياته!
العجيب حقا أن التطبيل والنفاق والتهليل لم يتوقف عند الصحفيين والفنانين وحدهم، بل طال السياسيين أيضا، وبشكل من الهذيان والهراء والكذب الفواح، فنرى ”السيد البدوي“ الرئيس السابق لحزب الوفد، وهو حزب سياسي شعبي ليبرالي عريق، أسسه سعد زغلول (1858 - 1927م) عام 1918م وقائد به ثورة 1919م، وقد قال دون خجل أو وجل: “إن عبد الفتاح السيسي استطاع أن ينهي مشكلة سد النهضة بحل سياسي!»، وأشاد به قائلا: «أراد الله أن يحمي مصر بوجوده وأن يحمي المنطقة العربية كلها فأرسل لنا رجلًا لم يكن في حسباننا أن يكون في مصر، مثل هذا الرجل».
في حين نجد أن ممدوح قناوي، الذي أسس ويترأس الحزب الدستوري الحر منذ عام 2004، وهو من الأحزاب الورقية الجديدة، ويزعم أنه يهتم بمبدأ العدالة الاجتماعية، يقول : « إن السيسي منذ أن كان نطفة في رحم أمه من أصحاب الرسالات، والعناية الإلهية أرسلته ليقوم بهذا الدور في الحرب على الإرهاب، لأنه كان على استعداد للتضحية بنفسه يومي 30 يونيو و3 يوليو»، وهو يقصد بذلك يومي المظاهرات المدبرة ضد الرئيس الإخواني محمد مرسي ويوم الانقلاب العسكري عليه بقيادة السيسي في عام 2013م.
رجال الدين المسيحي بدورهم لا يفوتهم اقتطاع حصة من كعكة النفاق العام والشامل، فيسارع الأنبا بولا، أسقف طنطا وتوابعها، ليقول في مداخلة هاتفية على قناة صدى البلد ببرنامج على مسئوليتي، فى 7 يناير الجاري، معلقًا على زيارة السيسي لكاتدرائية العباسية فى احتفالات عيد الميلاد: « فجأة رأينا المسيح داخل الكنيسة يوم ميلاد المسيح، كما ظهر الملاك مبشرا بميلاد المسيح».
كذلك الأنبا مكاري يونان، الراعي بالكنيسة الأرثوذكسية، ينوه في مداخلة هاتفية مع قناة النهار، يوم 8 يناير الجاري (2024)، إلى أن عبد الفتاح السيسي “مرسل من السماء”، مضيفًا أنه تم ذكره في الإنجيل في نبوءة في سفر أشعيا {أُرسل لمصر حاميًا ومخلصًا}.
أما الوصف التاريخي للسيس فقد جاء على لسان زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، خلال لقاء له على قناة الحياة في 3 مارس 2014. وأشار فيه إلى أن أحد ملوك الأسرة الفرعونية الخامسة يسمى “جد قرع السيسي”، وكان لديه ملك كبير، ويمنُّ على غيره بالعطايا والهبات، مؤكدا أن نسب الرئيس الحالي يعود إليه بنسبة 1000%.
أولئك المنافقون وغيرهم الكثير ينحنون دائمًا لمن هو في موضع قوة رغم احتقارهم الشديد له في أعماقهم، وهم أول من يقفز من سفينته عند غرقها. ولكن من الطبيعي أن يتساءل المرء: ما الذي يجعل أعلى مسؤول في الدولة يتقبَّل نفاق الآخرين له؟ وما هي الجدوى التي يجنيها من جراء هذا النفاق الكثيف؟
الاستبداد أو الطغيان ليس سلوكا شخصيا فحسب، بل هو انعكاس عن حالة مرضية - نفسية يعيشها المستبد بسبب معاناته النفسية في طفولته، وتمثل الدافع الدينامي الداخلي لسلوكه الاستبدادي التسلطي، وتعكس جوهر الأنا الذي ينظر من خلاله إلى ذاته، وإلى ذوات الآخرين من حوله، ومن ثم تنتظم على أساسها علاقته بذاته وبذوات الأخر. باختصار الاستبداد في حقيقة الأمر ما هو إلا تجسيم للنزعة الطفولية الداخلية لدي المستبد الناشئة من خلال الحرمان النفسي والعاطفي الذي يغذيه الحرامان الاجتماعي، مما تدعوه للسيطرة والتفرد والاستحواذ والسطوة والتملك.
***
المستبد أو الطاغية يقدم ذاته على ذوات الآخرين بصفته أقدر وأعظم وأفضل شخص على وجه الأرض، فهو يتسم بالغرور والكبرياء وجنون العظمة. ويهيم حبا في امتداحه والتملق له، والاستكثار منهما حتى وإن كان مخالفًا للحقيقة. ولذلك يقرِّب بطانة السوء والفاسدين من المنافقين، ويمكِّن الجهلة ويسيِِّد المرائين، ويوليهم أعلى المناصب من الرائين، بهدف تثبيت أركان حكمة، وفي نفس الوقت يضمر كراهية شديدة لأهل العلم والكفاءة، فيعمد إلى احتقارهم وتهميشهم.. المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 - 1973م)، الذي يعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، قال: « إذا أردت أن تهدم حضارة، احتقر معلما، وأذل طبيبا، وهمش عالما، واعطي قيمة للتافهين».
المستبد أو الطاغية لا يعرف معنى الإنسانية، ويستمتع بإذلال الشعب وقهر إرادته، ويفضِّل العمل في الظلام التام، وإخفاء الحقائق عن الناس، وهو يعرف أن الناس تحب وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام، فيزيف المبادئ ويحارب قيم الحرية والوعي وربطها بالفتنة والفوضى، ويسارع إلى تجريم الرأي الآخر وربطه بالخيانة والمؤامرة، ويحرص كل الحرص على استعمال الطغيان والغدر حتى بأقرب المقربين له، لخوفه الدائم من الانقلاب والثورة عليه، كما يعمل ما في وسعه وبمساعدة وسائل الإعلام وأساليب التعليم على تفريق المواطنين وبث الشكوك والخلاف والكراهية بينهم ووضعهم على حافة الجوع، لينصرفوا عمَّا يسببه لهم من قهر واستعباد.
المستبد أو الطاغية يحتقر القوانين، ويرفض كل ما يقيد حركته، أو يقنن سلوكه، أو يضبط وضعه المرضي في النزوع نحو السلطة وشهوة التملك والسطوة والتفرد.. يفضِّل التعامل خارج الأطر القانونية والتحلل من القيود الرقابية.
قال الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (1855 - 1902م) في كتابه العابر للأجيال: ”طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد“: « إن المُستبِد ما هو إلا رأسَ الهرم الاستبدادي الذي يرتكز على قاعدةٍ واسعةٍ من الوزراء والأعوان ورجال الدين. ولا يستقر الحاكم المستبد على كرسي الحكم إلا بموافقة ورضا هذه الفئة، فهي كالعصابة التي تحمي الحاكم ما دام قائما على تحقيق مصالحهم الخاصة. وقال إن الحاكم الظالم المستبد يعيش في كرب وخوف وارتياب على الدوام، فهو من جهة يخاف شعبه إذا ثارت ثائرتهم وانتفضوا ضد حكمه وسطوته عليهم، ويخاف أعوانه وبطانته إذا هم تبينوا عدمَ جدواهُ في الحكم، وقرروا إزالته من منصبه. ويشير الكواكبي إلى ظاهرة قد تحصل في بعض الحكومات الاستبدادية، وهي أن يقوم وزراء الحاكم المستبد وأعوانه بانتقاده والمناداة بالإصلاح الاجتماعي وتحقيق مطالب الشعب. وعلى أفراد الأمة، في هذه الحال، ألا ينخدعوا وينجروا وراء تلك الشعارات الكاذبة الصادرة عن أشخاص انغمسوا في بحر الاستبداد والظلم وأكل حقوق الأمة. فهم لم يهبوا ضد الحاكم إلا سعياً وراءَ مصالحهم وتهديداً للحاكم ليشاركهم في أموال الرعية وثروات البلاد»، هذا بالضبط ما فعله المجلس العسكري من جراء خلع حسني مبارك.
***
لا يمكن لأي مجتمع أن يتخلص من النفاق ما لم يتخلص من جميع الأوصياء عليه في كافة المجالات، وينعم بأجواء من الحرية والمساواة بين أفراده، ويسود فيه احترام الإنسان والحيوان والجماد، والالتزام بجميع القيم الإنسانية دون استثناء.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي