مشيئة الرحمن ومشيئة الإنسان

ياسين المصري
2023 / 2 / 13

عندما ضرب زلزال كبير في 6 فبراير 2023، جنوب غرب تركيا وشمال غرب سوريا، وهدَّم ما لا يقل عن 12 ألف مبنى، وأدَّى إلى موت وجرح وتشريد الملايين من الرجال والنساء والأطفال، ذهب بعد يومين الرئيس التركي المتأسلم ”رجب طيب أردوغان“ ليتفقد الدمار الهائل الذي خلفه الزلزال، وأمام جمع غفير من المشرَّدين المكلومين الذين التاعت قلوبهم من الحزن والأسى، علَّق الكارثة برمتها على مشيئة الله، قائلًا: « قدَّر الله وما شاء فعل»، وهي جملة شائعة على ألسنة المتأسلمين خاصة عند حدوث المصائب والكوارث.
ونقرأ للأستاذ المتأسلم علي الصلابي الذي يوصف بأنه مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي، قوله: « كلّ شيء يجري بِتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، ولا مشيئة للعِباد إلا ما شاء لهم. فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، فهذا الكونُ خلق الله تعالى، ولا يقع شيء إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يستطيع عبدٌ مهما كان كبيرًا أن يفعل شيئًا ما أراده الله، وإنّ كلّ شيء وقع أراده الله تعالى، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله تعالى متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق». ويخلص إلى القول بأن: « مشيئة العبد تحت مشيئة الله»
https://www.aljazeera.net/blogs/2019/8/22/التوفيق-بين-مشيئة-الله-وقدره-واختيار
هل هذا الكلام صحيح؟ وهل إله المتاسلمين يقدِّر الأمور ويتخذ قرارا تجاهها بهذا الشكل الشرير، وفي نفس الوقت نزعم أن إرادته متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق؟ وأي خير تجيء به الزلازل والبراكين والحروب المدمرة بين البشر ؟

الإله (أو الله بعد حرف الألف الوسطى) في الأديان الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلامية) إله خفي يتعامل معه الذهن البشري بقدر لا محدود من الفانتازيا، مجرد فكرة رحبة، أوجدها البشر على شاكلتهم، وبحسب تصوراتهم. فيها الكثير من التناقضات، التي يطغى فيها الشر والعنف على الخير والسلام، مما جعل الكثيرون يجادلون بأنها ديانات عنيفة بطبيعتها، على سبيل المثال، كتب جاك نيلسون - بالماير أن «اليهودية والمسيحية والإسلام ستواصل المساهمة في تدمير العالم إلى أن يتحدى كل منهما العنف في النصوص المقدسة وإلى أن يؤكد كل منها على اللاعنف، بما في ذلك قوة الله اللاعنفية».
Nelson-Pallmeyer، Jack: Is Religion Killing Us?: Violence in the Bible and the Quran. Continuum International Publishing Group. 2005, P.136.
المشكلة الحقيقية في هذه الديانات الثلاث هي ” فكرة الله “، فهي فكرة رحبة وبلا معالم. من ناحية تصوِّره على أنه جبار شرير ومن ناحية أخرى بأنه رحمن رحيم محب وأن الإنسان ”خليفة محبته“ وفي نفس الوقت معز مذل وماكر ومضل … إلخ، ولذلك من الممكن لأي شخص أن يدخل إلى هذه الفكرة ويضيف لها ما شاء من الصفات، ويزعم على لسانها ما شاء من الأقوال والأفعال. ولكي يتألَّه على البشر لا بد وأن تكون له مشيئة وعنده إرادة تتفوَّق على مشيئتهم وتقهر إراداتهم. هذا هو منطلق السيطرة اللامحدودة على الناس وفرض طاعتهم التامة!
عبارة ”إن شاء الله“ تعني إثبات المشيئة إلى الله في أمور المُستقبل، حيث يؤمن المتأسلمون بأن كل شيء سيحدث في المُستقبل مُقدر ومكتوب عند الله الخالق، ومن ثم ترتبط حدوث الأشياء بمشيئته وإرادته، بحسب آيات قرآنية عديدة، منها: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف 23 - 24)، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (التكوير 28) ، وقوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (المدثر 56).
وتتشابه هذه العبارة بأخرى شائعة أيضًا هي ”بإذن الله“، فكلاهما له نفس المعنى ونفس الاستعمال.

في تاريخ المتأسلمين ظهرت فرقة عرفت باسم ”الجبرية“، أتباع الجهم بن صفوان الذي قتله أمير خراسان، سنة 128هـ، وهم يقولون: إن العبد مجبر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقى هو الله، وأن الله أجبر العباد على الإيمان أو الكفر، كما ذكر الشهرستانى فى (الملل والنحل). ويعتقدون بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير، لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار. بناء على آيات كثيرة في القرآن منها: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد 27)، { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النساء 78).…هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب الأغلبية العظمى من المتأسلمين الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..
وقد نقلها المتأسلمون هذا المصلح معهم إلى جزيرة مالطا ما بين نهاية القرن التاسع وحتى نهاية القرن الثاني عشر، وتُنطق (jekk Alla jrid)، كما نقلوها إلى شبه جزيرة إيبيريا أثناء احتلالهم لها ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر حيث تُنطق في كلاً من اللغة إسبانية: (ojalá) واللغة البرتغالية: (oxalá)، ولكنها من العبارات النادرة في الاستعمال اليومي، وكثيرا ما يعقب سماعها ابتسامة ساخرة. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة أن قاموس دودن DUDEN الذي يعد أهم قواميس اللغة الألمانية ومرجعا شاملا في المعاني وقواعد الإملاء، أدخل في أحدث طبعاته (ط 26) عبارة "إن شاء الله"، مكتوبة بصيغة ”inschallah“ بالألمانية. بالطبع لوجود أعداد كبيرة من السوريين والعراقيين والعربان الآخرين اللاجئين إلى ألمانيا في الوقت الراهن.
من الواضح أن تعبير ”إن شاء (أو أراد) الله“ تعبير شرطي لتحقيق شيء ما بمعني أن تحقيقه يتوقف على مشيئة الله وإرادته، وهو غير تعبير ” ما شاء الله “ الذي يشير إلى الدهشة والإعجاب والامتنان لنعمة الله أو الاعتراف بتدخله في حدوثها، كما يعبر عن الرغبة في الحفاظ على ثروة ما، خاصة ضد الأعين الشريرة أو يستخدم للتهنئة والتقريظ.
إذا كان كل شيء في حياتنا مرتبط بمشيئة الله وإرادته، فأين هي مشيئتنا وإرادتنا نحن البشر؟ ولماذا تكون مشيئة الله وإرادته ضد مشيئتها وإرادتنا في الأحوال الحرجة، وفي الأوقات التي نريد فيها الرحمة منه، فلا نطلب منه رد القضاء ولكن اللطف فيه، كمن لا يطلب الشفاء بل التهوين في المرض!
هذا التعبير يستخدم أساسا للمماطلة والتهرب والاحتماء بمشيئة الله التي لا يستطيع أحد الاعتراض عليها، وفي مملكة آل سعود ودويلات الخليج المجاورة يستعملونه في مكانه الصحيح، فإذا سألت أحدهم طلبًا، وكانت لديه النية على رفض طلبك يقول لك: « إن شاء الله »، وإن كانت لديه النية على تحقيقه يقول: « أبشر»،
إن مشيئة الله المزعومة تهدف إلى طمس مشيئة البشر، إذ أنها التفسير الميتافيزيقي الاسطوري لأي شيء لا يريد المرء تحمل مسؤوليته من ناحية ولأنه من ناحية أخرى يريح العقول الخاملة من مهمة البحث في الاسباب وكيفية تجنبها. إنه يحمل المرء على الاعتقاد بوجود راحته في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر. فالاعتقاد بالجبرية يعني أننا لم نكن سبباً فيما يواجهنا من مصائب، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بنفس المشيئة وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.
وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية، يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرته للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي والعمل، بل وللعلم والمعرفة.

حميع الحكام المتأسلمين على مر التاريخ يحتمون بالآية التي ابتدعها الأمويون: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (آل عمران 26). وذلك لتبرير استحواذهم على السلطة في بلادهم وتشريع استبدادهم وسيطرتهم على شعوبهم مدى الحياة، والقول بأن الله قدَّر ما شاء فعل ما هو سوي دعوة للتكاسل والتواكل والسلبية، ومدعاة للفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.
الإنسان لديه القدرة على الاختيار، وأن قدرته على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة ما يختار عمله، وأن كل ما يختار عمله اليوم سيلاقي نتيجته إن عاجلا أو آجلا، وإذا كانت أعماله اليوم هي التي تصنع حياته في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا، فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا بالأمس. لكننا نحن البشر جبلنا على تبرئة أنفسنا والعيش بنفسية الضحية، فكانت مشيئة الله لا لنوقف بها مشيئتنا فحسب، بل أيضا لنلغي بها حريتنا ونقلص بها وجودنا في الحياة، فيصبح كل منا مجرد شبح يسير على قدمين! 
 بعد 4 أيام على وقوع الزلزال (الجمعة 10/2/2023) تساءلت وكالة ” أسوشيتد برس “ في تقرير لها عن إمكانية أن تكون الحكومة التركية مسؤولة بشكل ما عن كارثة الزلزال، وعمَّا إذا كان من الممكن تفاديه ببعض القرارات الإدارية الصائبة؟ وهل يدفع الآن آلاف الضحايا من الأتراك ثمن سوء التصرف الحكومي؟. وأشارت في التقرير إلى أن الإهمال في اتباع إجراءات السلامة في أنظمة وقوانين البناء التركية، والتي كانت معروفة قبل الزلزال، لعب دورا حاسما في تعميق الكارثة. ونقل التقرير عن الخبراء قولهم إن تركيا تجاهلت على مدار سنوات طويلة فرض قوانين البناء الحديثة واتباع قواعد الأمان، بل وشجعت الاستثمار العقاري وتوسيع أعمال التشييد والبناء في المناطق التي حذر خبراء في الجيولوجيا والهندسة من احتمالية تعرضها للزلازل منذ سنوات عديدة. هذا الإهمال والتراخي في تطبيق القانون أصبح الآن محل نقاش وتدقيق في أعقاب الزلزال المدمرة الذي وقع، الاثنين،.
ومن المعروف أن اليابان كانت تعاني من الزلازل طوال تاريخها، كان أسوأها زلزال كانتو الكبير، عام 1923. وبلغت قوته 7.9 درجات على مقياس ريختر، ودمّر طوكيو ويوكوهاما، وأودى بحياة أكثر من 140 ألف شخص. ومن حسن حظ اليابان أنها ليست دولة متأسلمة، ولا تعرف سوى مشيئة العلم، فمنذ ذلك الوقت وهي تطبق معايير صارمة على الأبنية، أبرزها قانون يحدد متطلبات المباني لمقاومة الزلازل، بما في ذلك السماكة الموصى بها للأعمدة والجدران لمواجهة الاهتزاز الأرضي.
https://www.skynewsarabia.com/technology/1596091-
لماذا-تعد-اليابان-نموذجا-ناجحا-تفادي-أضرار-الزلازل؟
ومنذ عام 2007، تم تثبيت نظام إنذار مبكر للزلازل على الهواتف الذكية العاملة في اليابان، يصدر هذا النظام تنبيهًا مباشرةً قبل وقوع زلزال. إن هذا النظام هو الأول من نوعه في العالم، وهو يصدر تنبيهًا يستند إلى هزات صغيرة أولية تحدث قبل ثوانٍ أو عشرات الثواني قبل وقوع زلزال كبير، ويحث الأشخاص على الاستعداد للإخلاء.
في كل يوم يعمل العلم على تثبيت مشيئة الإنسان في العقول الفاعلة، غير الكسولة والخاملة، ويحميها من مشيئة الله. مشيئة الإنسان لا تعلو عليها مشيئة أخرى، الأموات وحده هم الذين تجردوا من مشيئتهم.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي