|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
ياسين المصري
2022 / 8 / 25
ظهرت الفتوى مع ظهور الديانات السماوية أو الابراهيمية الثلاث، نظرًا لأن الإله مغيَّب أو مخفي أو بأفضل توصيف: متوَهَّم، ومن ثم تولى الحضور نيابة عنه رجال (دين) يتكلمون باسمه ويزعمون أنهم يعرفون كل ما يريده من البشر، ولأن الوضع برمته مجرد خيال واحتيال وصراع على تحقيق المكاسب الشخصية المادية والمعنوية، فقد انقسموا داخل الديانة الواحدة إلى العشرات من الحركات الاجتماعية والمدارس الفكرية، والمذاهب والملل المختلفة، وجميعها تضع كتبها وفكرها وفتاويها الخاصة بها.
خضعت أول هذه الديانات الثلاث (اليهودية) في بداية تشكيلها لمجموعة من اليهود الفريسيين: Pharisees) أي (الرفاق، الزملاء، الأحبار، الأتقياء)، الذين كونوا حزبًا سياسيًا دينيا برز عام 167 ق.م، داخل المجتمع اليهودي في فلسطين؛ والمصطلح من اللغة الآرامية ويشير إلى الابتعاد والاعتزال عن الخاطئين (البشر الآخرين)، واتباع مذهب ديني متشدد في الحفاظ على شريعة موسى والسنن الشفهية التي استنبطوها، دون التدخل في شؤون الناس. وبين عامي (66 - 73 م)، خلال أول الثورات اليهودية (أو الثورة الكبرى) تم على أيدي الرومان طردهم من أورشليم (القدس)، وتدمير الهيكل، وانهيار مجمع الشيوخ (السنهدريم أو السنهدرين)، ومعناها حرفيا ”الجالسون معًا“ وكان يمثل المحكمة العليا للأمة اليهودية، فسقط الكهنوت الديني، وسقطت جميع طقوس العبادة وشروط مغفرة الخطايا، وجميع الشعائر الدينية!، فلم يتبقى لليهود فرصة إلا البدء بحركة الفتاوى الدينية ( ”بساك هلخاه“ بالعبرية)، وابتداع ما يسمَّى باليهودية الربانية أو اليهودية الحاخامية إلى جانب مسميات أخرى، بهدف إيجاد شرائع جديدة لاحتواء اليهود، من خلال الاقتباس المباشر من آيات التلمود أو على أسس من تأويلاتها وتفسيراتها المعقدة، الأمر الذي اتبع فيما بعد مع الإنجيل والقران.
أستمرت حركة الفتاوى هذه حتى الآن من قبل مجموعة الحاخامات (الحريديم)، وهم يشبهون السلفيين أو الأصوليين في الإسلاموية، وتستخدم الحكومات الإسرائيلية فتاويهم لتبرير اعتدائها على الفلسطينيين وطردهم أو قتلهم، ففي يوم الأحد 12 ديسمبر 2010 وقَّع نحو 50 حاخاما منهم، على فتوى تحرم أكل الشاورما الحلال في قرى العرب (لا يعترفون بوجود الفلسطينيين) أو تناول طعام طبَخَه عربي وعدم استخدام مرآب يملكه لتصليح السيارة، كما تحرم شراء الطعام أو الورود أو أي شيء آخر منهم، وعدم بيع أو تأجير شقق سكنية لهم ولغير اليهود بحجة أن التوراة تمنع ذلك وتحدد عقوبات لمن لا يلتزم بها، إلى جانب فتاوى عديدة كالتي تمنع نسائهم من التحدث بالهواتف الخلوية في الأماكن العامة. وتطالبهن بـ"تغطية رؤوسهن حتى أقدامهن"، لتقوية حرمة وقدسية المرأة بدل إبراز الجانب الدنس من جسدها، والهجوم على أصحاب المحلات الذين يتجاهلون هذه الفتوى، وتكسير زجاج محلاتهم ، وذلك لأن الملابس التي يبيعونها تتعارض مع المواصفات المطلوبة.
ولكن أسوأ الفتاوى على الإطلاق تلك التي أصدرها الحاخام “باروخ أفراتي“ في 20 أكتوبر 2015، ونشرها على موقع ”كيبا العبري“. وكانت ردا على أحد السائلين قائلاً: « في وقت الحرب مثلما يحدث حالياً، لا حاجة للمحاكمة فلنقتل العدو، ونقتله أيضاً عندما يسقط السلاح من يده في المعركة، لأن هذا هو سبيل الحرب، ولا نأمر بالامتناع عن قتل من نفذ الرصاص حتى لا تتاح له الفرصة لتلقيم بندقيته مجدداً، لئلا يعود في الحال للقتل. لأن التوراة تقول :{ فَسَقَطُوا أَمَامَ يُونَاثَانَ، وَكَانَ حَامِلُ سِلاَحِهِ يُقَتِّلُ وَرَاءَهُ}، لأن من بقي حياً في القتال عاد بالطبع لحيله ويجب قتله فلا تكفي إصابته». وأضاف: "وماذا إذا كان العدو ينزف ولا يستطيع إلحاق الأذى؟ يجب قتله في المكان إذا كان لا يزال يتحرك، وكما قال داوود: أطارِدُ أَعْدائي فأدْرِكُهم ولا أَعودُ حتّى أُفْنِيَهم". إذا لم نستطع التمييز بأنفسنا إن كان القاتل قد تم تحييده، وخشية تعريض الناس للخطر فيجب قتل العدو فوراً».
***
انقادت المسيحية بالمثل للفتوى عندما صرخ البابا ”أوربان الثاني“ في عام 1095م، داعيًا جميع المسيحيين في أوروبا إلى بدء ما سُمي بالحروب الصليبية، ووعد المُحاربين آنذاك بِأن تكون رحلتهم إلى المشرق بِمثابة غُفرانٍ كاملٍ لِذُنُوبهم، خاتماً عظته بعبارة “ Deus vult ” بمعنى “الله يريدها“ أي يريد الحرب، وكانت تلك العصور المظلمة في أوروبا زاخرة بالفتاوى الكنسية الإجرامية واللإنسانية الممنهجة، بينما المسيحية الشرقية (الأرثوذكسية)، لم تعرف هذا الشكل من الفتاوى أو اﻷحكام، التي يصدرها رجل دين، بل كان اﻹفتاء دوماً بيد ”المجمع الكنسي“، لغرض اﻹرشاد المرتبط على الأغلب بسرّ المعمودية. ولم ينتقل في يوم ما إلى وضع شبيه بدور الإفتاء المعروفة في الدول المتأسلمة.
في أواخر القرن الحادي والعشرين انتقلت حمى الافتاء المتفشية في مصر إلى الأقباط (الأرثوذكسية)، رغم أن مسيحيتهم ترفض مسمى الفتوى وتشير إليها بوصفها نصيحة أو إرشاداً روحي، يستقبله المسيحي الأرثوذكسي على أنه إلزام دينى وروحى له ويعتبره منهجا يسير عليه فى حياته. كان للبابا شنودة الثالث (1923 - 2012م) باع طويل في هذا الشأن، خاصة في ردوده المتَّسِمة بالذكاء وخفة الروح والرقة، على تساؤلات الأقباط في عظات الأربعاء من كل أسبوع التي كان يجريها فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
فعلى سؤال عن سماع الأغاني، رد البابا قائلا: « إذا كنت تقصد الأغانى العاطفية التى لغير الله فهى خطأ لأنه من المفروض أن يكون قلبك كله وعاطفتك لله». وحرم الموسيقى التي توقظ مشاعر ليست مُنضبطة.
ومن أطرف الأسئلة سؤال طرحته سيدة تبلغ من العمر 70 عاما وزوجها 80 عاما تشكو للبابا من غيرة زوجها عليها والتى لم تعد تتحملها؟، فابتسم البابا ونصح السيدة بالهدوء قائلا: « يجب أن تشعري بالسعادة لغيرة زوجك عليك بعد هذا العمر الممتد»، واعتبر غيرته عليها اهتماما وحبا منه لها.
وعندما سأله زوج كثير الشك فى زوجته: ماذا أفعل؟. قال له البابا ناصحا: «الشك لن يتعبها هى بل يتعبك أنت، وعليك أن تتذكر فضائلها كلما تسرب الشك إلى قلبك»
ومن الغيرة والشك إلى ضرب الزوجات، ففى إحدى المرات سأله أحد الأقباط: «هل ما يفعله من ضرب لزوجته«علقة» كل شهر حتى تمتنع عن المشاكل حرام أم حلال؟».. فرد البابا قائلا: «إن الضرب خطية، لأننا نكسب الناس بالحب ولا يجب أن نغيظ أحدا حتى يصل إلى مرحلة الانفعال لتحدث على أثره خطية الضرب…». وأشرك البابا المرأة فى الخطية لأنها هى التى تصل بالرجل إلى هذا الحد.
وحول الحلال والحرام سأل أحد الشباب البابا حول عمله فى إحدى صالات القمار بالفنادق الكبرى منذ 7 سنوات هل حلال أم حرام؟ فطلب منه البابا أن يترك عمله فورا، وطلب اسمه للبحث له عن عمل آخر حتى لا يفقد مصدر رزقه بترك العمل فى صالة القمار.
وكما في الديانات الثلاث، شدد البابا على «تحريم النحت» وصنع التماثيل، وقال فى إجابته عن سؤال لمسيحي يعمل بالنحت ولا يصوم ولكنه يتبرع للفقراء والكنيسة: «توجد خطايا عارضة وخطايا خطيرة، فمثل من يعمل فى صناعة التماثيل والأصنام، وما شابهها من أعمال، لا تقبل عطاياه، مثلها مثل الربا، والمرأة الزانية التى تعيش فى الزنى لا تقبل عطاياها لأن النبى داود يقول: «زيت الخاطئ لا يدهن رأسي».
وردا على سؤال عن زيارة الموتى بالقبور فى الأعياد، قال البابا: «إن زيارة الموتى مفضل لأنه يعطي عبرة وعظة عن زوال العالم وغير مفضل فى الأعياد على اعتبار أنها أيام فرح ولا يجب تذكر الأشياء المحزنة بها».
وعندما سئل من قبطي يريد تقسيم تركته على أبنائه حسب الشريعة الإسلاموية، نهى البابا شنودة التمييز بين الفتى والفتاة فى تقسيم الميراث، مشيرا إلى أن المسيحية لا تفرق بين الجنسين، ونصح الرجل بعدم الانصياع لرغبة زوجته بتوريث ابنها ثلثى ميراث والده على حساب الابنة المظلومة، طالبا منه أن يتبع ضميره لا ضغوط زوجته.
وعلى عكس الشيخ متولي الشعراوي، أكد البابا شنودة على إمكانية التبرع بالأعضاء لأي إنسان مهما كانت ديانته، مشددا على أن مسألة مساعدة المريض عمل إنسانى، لا يتقيد بشروط الجنس أو الدين أو اللغة لأنه واجب على الجميع.
وفى إطار التكنولوجيا الحديثة نصح البابا بعدم ممارسة سر الاعتراف - وهو أحد الأسرار الكنسَيَّة السبعة - عن طريق الموبايل. وكان مبرر البابا غريبا ولم يتوقعه الأقباط، فقد ظنوا أن المنع بسبب الخصوصية وأهمية أن يكون القبطي الذى يمارس سر الاعتراف موجودا أمام الكاهن، لكن البابا منعه لسبب آخر، قال: «بلاش تعترفوا فى الموبايل علشان أمن الدولة هيسمع اعترافاتكم».
نستطيع القول بأن البابا شنودة الثالث هو من استحدث موجة الفتاوى التى لم تكن موجودة من قبل، والتى أصبحت تجيب عن أسئلة فى كل الأمور الحياتية مثل الزواج والحب والاقتصاد والتبرع والصداقة … إلخ. ولكن الأمر برمته، كان ولا زال يتوقف على شخصية البابا وأسلوب عمله الكنائسي بوجه عام.
***
تعد الفتوى في الإسلاموية مرسوم ديني، يعمل عمل الألغام الموقوته، خارج سيطرة الدولة، ولذلك غالبا ما تستعمله الحكومات المتأسلمة لتصفية خصومها والتحكم في حياة رعاياها، إذ يقوم بإصدارها أشخاص نصَّبوا أنفسهم للتوقيع نيابة عن الله، خاصة في الأمور الجدلية التي لا حصر لها في الديانة، مثل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومسميات مثل الحلال والحرام، المستحب والمكروه، الطيب والخبيث، المؤمن والكافر، الحياة الدنيا والآخرة وغيرها. ويتم ذلك عادة نتيجة غياب جواب واضح وصريح يتفقون عليه في أمر من أمور الفقه، ويتعلق بموضوعات شائكة ذات أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية.
عندما كان النبي على الفراش يعاني سكرات الموت، تركه أصدقاؤه المبشرون بجنته، وراحوا إلى تعريشة بني ساعدة ليتصارعوا مع الآخرين على السلطة من بعده، فالجميع وجدوا أنفسهم مقبلين على زمن جديد لا وجود فيه لله ولا لنبيه، وقد بدأ رونق السلطة والثروة والنفوذ يسيطر على عقولهم، ومظاهر الترف تنتشر بين صفوفهم، فراح كل فصيل ينسب كلاما إلي الله ونبيه لتبرير أحقيته بالخلافة. وازداد هذا الخلاف سوءا في عصر الأمويين والعباسيين، حيث ظهرت بصورة تدريجية العديد من التيارات الدينية والمذاهب الفقهية والصراعات الدموية، راحت الفتوى تأخذ مكانها في كل نواحي الحياة، وظلت هكذا حتى يومنا هذا، مدعومة بقوة مباشرة من الحكام الجهلة والعجزة والفاشلين ومعدومي الشرعية.
المشكلة هي أنه لا يوجد في الإسلاموية سلطة مركزية وحيدة لإصدار الفتوى، كما أن صدور فتوى معينة لا تعني بالضرورة أن على جميع المتأسلمين أن يلتزموا بها، ويطبقوا ما جاء فيها، خاصة وأنها في كثير من الأحوال متضاربة أو غبية، أو لا فائدة ترجى من ورائها، فضلا أنها قد تكون مدمِّرة، ويمكن أن تصدر من أي شخص يحترف التجارة بالدين بهدف تحقيق أهوائه ومصالحه الشخصية. مما يجعلها تتسبب في العديد من التأثيرات السلبية، أهمها على الإطلاق هو اعتماد المتأسلمين على رجل الدين لكى يفتى لهم فى كل مسارات حياتهم، إلى أن يصبحوا فاقدي لإرادتهم وحريتهم فى الاختيار.. وبالتالى تتجمَّد عقولهم ويتوقف تفكيرهم، ويصابون بالغباء، فلا يدرك كل منهم أنَّ العلاقة بينه وربه علاقة خاصة به وحده، وأن هذه العلاقة هي التي تحكم سَيْرَه فى الحياة وتعطيه الإرادة فى الاختيار، وتحدد أفعاله النابعة عن استشعاره الحقيقى بالصح والخطأ في أفعاله، بحيث لا يسمح لرجل الدين بالدخُّل فى تفاصيل حياته، لتصبح كلها حراما وحلالا فقط؟، لا يَسمَح للفتوى أن تعظِّم من دور رجل الدين وتجعله يسيطر على مقدراته في الحياة، ويعرف أن لرجل الدين دورًا واحدًا فقط، هو الإرشاد الروحى فى علاقات الناس بأربابها، وليس بشؤونهم الحياتية؟
***
صناعة الغباء كأي شيء تتم صناعته يتم ترسيخها بالفكرة الغبية أو بغباء الفكرة، ومن ثم بالفعل الغبي، في كتاب «القوانين الأساسية للغباء البشري» (أشير إليه في مقالات سابقة) يقول المؤرخ الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا كارو سيبولا «إن الغباء صناعة، تصنع كما تصنع الأحذية، ويصنع كي يلبس، ولكن في الرأس لا في القدم ..». دور الإفتاء الموجودة في جميع الدول المتأسلمة تساهم مباشرة وبقدر كبير في صناعته بإصدار الملايين من الفتاوى سنويا. دار الافتاء المصرية اصدرت فى عام 2021 وحده 1.368 مليون فتوى، كردود على أسئلة وردت إليها مباشرة من المواطنين، هذا إلى جانب ما تصدره من فتاوى أخرى كثيرة دون سؤال من أحد، وذلك للعمل على تماهي وتكييف الأوضاع الاجتماعية مع النهج السياسي الذي تتبعه الدولة. كذلك لا يدخل ضمن هذا العدد الفتاوى الفردية من المشايخ المحترفين والهواة التي تُنشر في كتبهم أو تُعَمَّم في البرامج التليفزيونية أو على مواقعهم الخاصة في اليوتوب أو غيره من المواقع الإلكترونية. ومن هنا أصبحت صناعة الغباء في مصر تحديدًا تجارة رائجة، واصبح الغباء باسطاً سطوته في كل شأن ومجال، في تعاطي الحكومة ومؤسسات الدولة مع الشؤون السياسية العامة، في التعليم كما في الاعلام، في البرامج والمسلسلات التليفزيونية، كما في برامج المقالب والأغاني والمسرحيات الهابطة، وفي غير ذلك من المجالات الحياتية للمواطنين..!، ويبقى الكثير منها قائمًا لا يزول بزوال قائلها.
في يوم الجمعة 12.8.2022 جرت محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي وهو بريطاني من أصول هندية في نيويورك، هذه المحاولة أثبتت أنها ليست ولن تكون حدثًا عارضا، وأن فتاوى إهدار الدم ما هي إلا ألغام موقوتة، لا تزول مع الزمن ونادرا ما يتم الرجوع عنها. ويتولَّى تنفيذها في وقت ما، أفراد متشددون أو خلايا نائمة أو أتباع يريدون تلبية نداء مرجعيتهم الدينية وأداء واجب ديني نحوهم. ففي عام 1889 أصدر المرشد الأعلى الإيراني السابق، الملقب بروح الله الخميني، فتوى بإهدار دم الكاتب، بسبب روايته "آيات شيطانية"، ومنذ ذلك الوقت ظلت فتاوى مشابهة تطارد العديد من الروائيين والمفكرين والأكاديميين الذين اعتبرت كتاباتهم أيضا تطاولا على الإسلاموية ونبيها، فالكثيرون منهم في باكستان ومصر والأردن والسعودية تعرضوا للقتل أو الاعتقال أو الجلد أو اضطر إلى الاختباء أو البقاء في المنفى، بسبب فتوى صدرت من رجل دين شهير أو من قبل مؤسسات دينية تمولها حكومات غير شرعية بالمطلق.
عندما صدرت الرواية في نهاية الثمانينيات، كان سلمان رشدي يصنف ككاتب مجهول من الدرجة العاشرة، وربما لم يقرأها الكثيرون، ولم تلفت انتباه أحد من نقاد الأدب المعروفين في حينه لمستواها اﻷدبي المتدني. قام الخميني بتحريض ممن حوله، بإصدار فتواه لاستباحة دم رشدي وخصصت جائزة بلغت مليون دولار في حينه ثم رفعت لاحقا الى اكثر من ذلك لمن يقتله! كان المبلغ وفق مقاييس تلك الفترة هائلا. ولكن تبين لاحقا أن من كسب هذه الملايين هو رشدي نفسه وبأكثر من ذلك أضعاف، بفعل تلك الفتوى الغبية التي جعلت منه نجم الشباك اﻷول بين المؤلفين، و كتابه ذاك بات أعلى الكتب مبيعاً و صار اﻹعلام و الصحافة تتهافت عليه من أجل تصريح مقابل ثمن!، ثم أدت المحاولة الغبية لقتله إلى رواج مؤلفات رشدي مرة أخري.
في عام 1983 صدرت في سوريا رواية ”وليمة لأعشاب البحر“ للأديب السوري حيد حيدر، وهي رواية متدنية اللغة وفق نقاد أدب لهم وزنهم، وأصفرت واتسخت أوراقها على أرصفة اكشاك الكتب والجرائد ولم يلتفت اليها احد، ورغم ذلك أعادت طباعتها في عام 2000م وزراة الثقافة في مصر، التي كان على رأسها الوزير المزمن المثير للجدل فاروق حسني، وكانت الوزارة تدعم طباعة كتب معينة شهرياً طباعة جد فاخرة وتبيعها بأسعار مخفضة تحت ستار تشجيع القراءة. ولا يعلم أحد لحد الآن لماذا سمح حسني بطباعة تلك الرواية ضمن ذلك المشروع، مع أنها رواية فاشلة وصادمة للتقاليد قبل أن تكون صادمة للدين ولكاتب غير مصري باﻷساس! مرة أخرى لم يلتفت اليها أحد لولا فتوى اﻷزهر بمنع الرواية ليس لمحتواها القميء، بل بدعوى «الإساءة إلى الإسلام» و فجأة تحول الكاتب إلى أشهر كاتب في الوطن العربي و ضربت مبيعات الرواية رقما قياسيا ، نتيجة لفتوى الغباء تلك!
في 14 أكتوبر 1994، طعن أحدهم الكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل، نجيب محفوظ، عدة طعنات في رقبته، في محاولة لتنفيذ فتوى أصدرها الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي كان أحد رجال الدين السنة البارزين في الجماعة الإسلاموية. وقد أصدر عبد الرحمن فتواه أثناء محاكمته في سجن أميركي بتهمة الضلوع في مؤامرة لتفجير في نيويورك، وقال إنه يجب قتل محفوظ معتبرا أن روايته ”أولاد حارتنا“ التي كتبها عام 1959 بها تطاول على الإسلاموية. وألقي القبض على الفاعل، وفي أثناء استجوابه اعترف بأنه لم يقرأ كتب نجيب قط، لكنه أقدم على محاولته تلك بناء على فتوى أصدرها شيخه المتشدد. وكان الأزهر الممول من الدولة والذي يمثل أعلى سلطة إسلاموية في مصر قد حظر كتاب محفوظ قبل وقت طويل من الهجوم عليه، بتهمة الإساءة للإسلاموية من خلال تصوير شخصيات ترمز للأنبياء.
وفي 8 يونيو 1992، قتل المفكر المصري، فرج فودة، برصاص اثنين من أعضاء الجماعة الإسلاموية بعد أن اتهمه الأزهر بأنه ”عدو للإسلام“ و”مرتد“.
كلنا نتذكر حادث صحيفة ”شارلي ايبدو“ الساخرة في يناير 2015، ونتيجة لفعلها اﻷحمق، أياً كان الهدف من ورائه، أن عبَّأ الصحافة الفرنسية والعالمية وجنّد المؤسسات اﻹعلامية وزعامات العالم المتحضر خلف صحيفة بائسة، تبين أنها على حافة اﻹفلاس من سنتين، وتعاني أزمة عاصفة؛ جاء هذا الحدث الأخرق، ليشهر الصحيفة ويجعلها تطبع ملايين النسخ وينتشلها من وهدتها بين ليلة وضحاها، وأنْ تكون هي الضحية التي على العالم بأجمعه ان يتعاطف معها، ويقف إلى جانبها! ذاك المرة وقفت خلف هذا الحادث جهة ترفع شعار اﻹسلاموية بناء على فتوى للغباء بأمتياز!، وبذلك تكون الإدانة العلنية من رجل دين لأي شخص ترقى لمستوى حكم الإعدام عليه، لأن المتشددين يعتبرون مثل هذه الإدانة رخصة لقتله خارج القانون والعدالة .