![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
حاتم بن رجيبة
2024 / 11 / 7
زرت مدينة برلين في منتصف التسعينات من القرن الماضي أي بعد مدة وجيزة من نهاية النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية.
كانت تلك الزيارة إنارة لي وقدمت لي الإجابة عن سؤال محوري بالنسبة لي: لماذا نحن متخلفون جدا والغرب متطور؟؟؟ هل لأننا مسلمون و هم مسيحيون؟ أم لأن أراضيهم خصبة وأراضينا قاحلة؟ أم لأن مناخهم معتدل وممطر ومناخنا حار وجاف؟ أم لأننا متقاعسون، نكره العمل والتفاني وهم بطبعهم يحبون العمل وجادون ألخ؟
أخيرا وجدت الإجابة في برلين سنة 1996 .
برلين الغربية فاحشة الثراء ببنية تحتية رهيبة: أنفاق، طرقات شاسعة من أعلى طراز ، محلات فاخرة، منازل روعة في الجمال والترف ... بينما برلين الشرقية في وضع مقرف: طرقات مهترئة، أحياء سكنية منهارة، محلات فارغة، فقر مدقع و تعاسة لا توصف ، وضعهم كان يشبه تماما وضعنا في بلدان العالم الثالث.
مدينة برلين يسكنها مواطنون من نفس العرق، نفس الديانة، نفس الثقافة، في نفس المناخ، نفس التربة والطبيعة...كل شيء متشابه نفسه يختلفون في شيء واحد: النظام السياسي!!
في ألمانيا الشرقية ساد النظام الشيوعي الشمولي والدكتاتوري أين حفنة قليلة جدا من المواطنين تحتكر الثروة والسلطة وتملي فكرها ورغباتها على البقية.بينما سواد الشعب عبيد ينفذون ما تقره الحفنة الحاكمة، سلبيون، محرومون، ينكل بهم و تمتص دمائهم يوميا .
أما في ألمانيا الغربية فتسود الديمقراطية أين يشارك المواطنون في الحكم باختيارهم لحكامهم ومشاركتهم في القرار. قسط كبير من الشعب يتقاسم الثروة والسلطة: رجال أعمال و منظمات مجتمع مدني كثيفة العدد وبرلمان ومجالس بلدية وانتخابات حرة وأحزاب سياسية متنوعة وعديدة و تفريق السلط وصحافة حرة، لا أحد يحتكر القرار أو السلطة أو الثروة ...
وجدت أخيرا الإجابة عن سر التطور: الديمقراطية الليبرالية الغربية كما نادى بها فلاسفة الأنوار وجسمتها الثورة الفرنسية والإنجليزية والأمريكية.
السلطة والثروة يتقاسمها عدد كبير من المواطنين والمؤسسات والمنظمات والأحزاب. الكل في منافسة شريفة ومققنة مع الكل . العدو الأكبر و السم القاتل للتطور هو : أن تحتكر زمرة قليلة السلطة والثورة كما حصل ويحصل في جل الحضارات على مدى التاريخ : الإقطاع و الأرستقراطية !!
لكن بعد هذه الفرحة العارمة برز سؤال آخر محير أكثر من الأول: لماذا أصبحت شعوب معينة قليلة ديمقراطية مثل دول أوروبا الغربية، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان ألخ وبقيت جل دول العالم ترزح تحت الدكتاتورية أو الشمولية، تحت نظام الإقطاع ؟؟؟؟
لم أجد إجابة مقنعة عقودا من الزمن رغم البحث المضني والتفكير والتمحيص والمطالعة إلى أن أحرز منذ أسابيع ثلاث باحثين على جائزة نوبل للإقتصاد بمؤلفهم : سبب فشل الدول!!!!
أخيرا زال الغموض وبرز النور!!! أخيرا انقشعت السحب الداكنة. أخيرا أدركت لماذا ترسخت الديمقراطية عندهم وغابت عندنا وعند جل الإنسانية!!!
رغم فرحتي الهائلة كانت خيبتي أكثر جسامة وعظمة!!! لماذا هذه الخيبة بعد حيرة أبدية؟؟؟؟
لأن السبب خارج عن نطاق إرادتنا وتأثيرنا!! لا يمكن لنا أن نرسخ الديمقراطية هكذا بنسخ مؤسسات الدول الديمقراطية كأن ننظم انتخابات ونضع دستورا ونحدث برلمانا ألخ !!
سيداتي سادتي: الديمقراطية والتطور ولدا للأسف صدفة!!! لم يرغب أي كان في أن تستتب الديمقراطية!!! لا في فرنسا ولا في أمريكا أو إنجلترا أو أستراليا ألخ !!!
كما ولد الكون صدفة، وكما نشأت الحياة على الأرض صدفة وكما ظهر الإنسان صدفة فإن الديمقراطية والتطور الإقتصادي ولدوا في مجتمعات دون أخرى صدفة!!!
الإحتكار والأنانية غرائز إنسانية، لذلك يسعى الأفراد إلى احتكار السلطة والثروة فنشأت في كل الحضارات على مدى التاريخ أرستقراطية طغت وسادت على الأغلبية فاستعبدتها.
هذه الأرستقراطية(البابلية و الفرعونية و الرومانية و العربية و العثمانية و الصينية و اليابانية و الانكية ألخ ) عطلت التطور والإزدهار ولا زالت تعطله وتحاربه في كل دول العالم الثالث.
في المؤلف أمثلة عديدة تبرز عامل الصدفة في بروز المجمعات المدنية الديمقراطية. مثلا أدى ظهور الطاعون في أوروبا في منتصف القرون الوسطى إلى اندثار نصف الشعوب الأوروبية، هذا أدى إلى ندرة اليد العاملة الفلاحية مما أدى في أوروبا الغربية إلى استقواء الفلاحين و الإنهيار التدريجي لنظام القن و لنظام الإقطاع وبروز طبقة برجوازية تريد المشاركة في الحكم والسلطة بعد أن نجحت في المشاركة في الثروة، هذا أدى إلى استتباب الديمقراطية في إنجلترا أولا ثم فرنسا التي نشرتها بدورها عن طريق نابليون في أوروبا الغربية، لذلك كانت أنجلترا مولد الثورة الإقتصادية دون غيرها لأنها كانت مولد الديمقراطية !!!
أما في أوروبا الشرقية فإن الطاعون لم يزد إلا في ترسيخ نظام القن وفي ازدهار الإقطاع وانتشار البؤس والتخلف!!! الصدفة!!
كذلك الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية: المستوطنون الأوائل فروا من سلطة الشركات التجارية التي جاءت بهم من انجلترا وأرادت استعبادهم بأن تواصل نظام القن والإقطاع بأن تستحوذ على جل منتوجهم الزراعي . هؤلاء المستوطنون استطاعوا التمرد و محاربة الشركات التجارية التي جلبتهم لأن شمال أمريكا كان يسكنه عدد قليل جدا من الهنود الحمر السكان الأصليين على عكس أمريكا الاتينية التي كانت ذات كثافة سكانية عالية أين كانت حضارات الإنكا والاستاك . المستوطنون أمكنهم الفرار لقلة السكان الأصليين الذين كانوا سيردعونهم . كما لم تستطع الشركات التجارية الإستغناء عنهم بعبيد من الهنود الحمر لقلة عدد هؤلاء . لذلك تمكن المستوطنون في شمال أمريكا من فرض رغبتهم في الإستحواذ على القسط الأكبر من منتوجهم الفلاحي وبالتالي تقاسم الثروة ومنه تقاسم الحكم ومنه نشأ مجتمع مدني مزدهر في الولايات المتحدة وكندا ونشأت ديمقراطية ليبرالية واقتصاد ثري تقدمي. نظرا لفشل مساعي الإحتكار والإستحواذ لقلة على حساب الأغلبية.
للصدفة وجوه عديدة ومختلفة: كوارث طبيعية، جوائح، حروب، تغير مناخي، ساسة ذوي كاريزما ونفوذ خاص، ...