|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 1 / 29
ربما لخشيتهم من تبعات صدمة حضارية تزلزل الكيان، يجنح العلمانيون العرب إلى إيثار السلامة والكذب على أنفسهم والآخرين بادعاء أن العلمانية لا تعادي الدين، بل تحترمه وتفسح له مجالاً أوسع من الحرية لممارسة طقوسه وعباداته وكل ما يحلو له أكثر حتى مما يحظى به في كنف نظم الحكم الدينية ذاتها. هذا الادعاء فاسد ومغلوط، هدفه الأساسي خداع المجتمع وفيه رجال الدين طمعاً في الإفلات من الملاحقة والاضطهاد. وهو ذات الهدف الذي يدفعهم إلى التورية على جوهرهم الحقيقي تحت ستار مسميات براقة خادعة مثل ’المدنية‘، ’الحرية‘، ’الديمقراطية‘، ’حقوق الإنسان‘ إلى آخره. في المقابل، المتدينون لم ينخدعوا يوماً بأي من ذلك، وكانوا دائماً وأبداً واضحين وصادقين مع أنفسهم ومع العلمانيين ومع المجتمع، معلنين عدائهم الصريح وغير المهادن للعلمانية ودعاتها. في الحقيقة، العداء بين العلمانية والدين واقعي وجوهري، أمر واقع جارٍ بالفعل مرده إلى الجوهر المناقض لكل منهما.
بماذا يرد العلمانيون العرب المعتقدين أن العلمانية تحترم الأديان:
* إذا كان البحث العلمي يثبت- وقد أثبت بالفعل- أن نشأة الكون، خلق الإنسان من الطين والمرأة من ضلع الرجل، خلق الحيوانات والأحياء وتسميتها منذ الأزل، رحلة الحياة من البدء حتى قيام الساعة وكل ما يشتغل فيه وينتجه العقل الديني من أفكار ونظريات من هذا القبيل خاطئ جملةً وتفصيلاً ولا يعدو كونه أساطير وخزعبلات وكلام فارغ الغرض منها التسلية وأخذ العظة، إن وجدت؛
* إذا كان البحث العلمي يثبت- وقد أثبت بالفعل- أن تنظيم حياة البشر ومعاملاتهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة وأن للرجل مثل حظ الأنثيين، ومع الأقليات العرقية والدينية وأهل الذمة وشعوب الأقطار الأجنبية من غير المسلمين أو من دار الكفر، وبين أولي الأمر الحاكمين والرعية المحكومين، وبين أهل العلم والفقه الديني وعامة الناس، وبين الأثرياء والفقراء وكل ما يشتغل فيه وينتجه العقل الديني من أفكار ونظريات من هذا القبيل كارثي ويؤدي إلى تفخيخ العلاقات بين البشر، وظلم وتفرقة واضطهاد بيِّن للمرأة والأقليات، وحروب واستنزاف ودمار بلا نهاية بين الدول، واستبداد وطغيان أبدي من الحكام، وطبقية وتفرقة مقيتة بين أبناء الوطن الواحد؛
* إذا كان البحث العلمي يثبت- وقد أثبت بالفعل- أن كل ما يشتغل فيه وينتجه العقل الديني من أفكار ونظريات حول قواعد العمران والرفاه على الصعيد السياسي والإنساني والعلمي والاجتماعي والاقتصادي، مثل نظرية الخلافة والشريعة الإسلامية أو الطب النبوي والرقية الشرعية أو نظرية أمة الإسلام الموحدة أو المعاملات المالية بالمرابحة والبنوك الإسلامية خداع وكذب مفضوح بهدف الاستبداد والاحتكار والاستغلال من دون أي سابقة ولا أساس فعلي؛
* إذا كان البحث العلمي يثبت- وقد أثبت بالفعل- أن الصلاة مضيعة للوقت والمساجد هدر للموارد، الآذان ضوضاء وتعدي على حرية الآخرين، الحج تجارة وتربح واستغلال بشع لأموال الفقراء الزهيدة بعد غسيل عقولهم من فوق منابر المساجد بدعاية موجهة ورخيصة، أن ماء زمزم ملوث، أن الصوم يضعف الصحة ويفاقم المرض، أن شهر رمضان إفساد وهدر اقتصادي بلا حدود...الخ؟!
العلمانيون العرب، ومعظمهم من المطلعين على أساليب العيش في المجتمعات الغربية، ربما يفهمون خطئاً حقيقة تسامح هذه المجتمعات الكامل تجاه الأقليات الدينية هناك، وتمتع هذه الأخيرة بالحرية التامة للعبادة وممارسة شعائرها كاملة دون أي مضايقة داخل معابدها ومساجدها وجمعياتها ومساكنها الخاصة، بشكل لا يحظى به أخوتهم في الدين في أوطانهم الأم ذات الأغلبية. ويفسرون خطئاً هذا التسامح والاحترام تجاه الأديان مهما كانت ومن ضمنها الخاصة بالأقلية كتسامح واحترام تجاه الدين ذاته. هذا خطأ وسوء فهم والتباس إدراكي لا شك فيه.
هم في فهمهم الخاطئ ذلك يخلطون بين مفهومين أساسيين: الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري. في مفهوم العلمانية، الاحترام والحرية حق أصيل لا ينتزع للأشخاص الطبيعية، الأشخاص لمجرد كونهم أشخاص بشر وإلى هذا الحد فقط. لكن نفس هؤلاء الأشخاص حين يتقلدون منصباً دينياً أو حديثهم باسم الدين أو احتجاجهم به لأي سبب أو قضية، لا يجدر بهم توقع مثل هذا التسامح والاحترام لما يدلون به من تصريحات وفتاوى وحجج بسند من الدين. لماذا؟ لأن الدين شخص اعتباري، مناقض في مبادئه وجوهره للشخص الاعتباري ذاته (العلمانية) الذي يخصهم بهذا التسامح والاحترام ويمنحهم حريات وحقوق كاملة لكن كأفراد وأشخاص طبيعيين فقط.
وربما هم لا يدركون كذلك أن العداوة والصراع بين العلمانية والدين في الغرب كانت حقيقية، وتفجرت في حروب شاملة ودموية انتهت بانتصار العلمانية وفرض قواعدها على الدين ليعيش الآن حقاً في حرية تامة، لكن محاطاً بأسوار الخصوصية الشخصية وحريات المجتمع المدني دون السماح له بمبارحتها أبداً إلى الفضاء العام والرسمي.
كأشخاص اعتبارية، كيف فضحت العلمانية هراء المفهوم الديني برمته، وأثبتت بالتجربة والدليل العلمي القاطع خطأ كل ادعاءات الدين وفروضه وثوابته فيما يخص الكون والحياة والبشر وكل شيء، وطردته شر طرده من مراصد الفلك ومعامل البحوث والمستشفيات وفصول الدرس وأماكن العمل ومؤسسات الحكم وكل الساحات الأكاديمية والعامة من دون أن ’تجرح‘ مشاعره؟ وهل كان الدين يقف ساكناً مستبشراً ومبتسماً في بلاهه والعلمانية تفعل به ذلك- تُنزله عن عرش دام له آلاف السنين؟!