|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الهيموت عبدالسلام
2020 / 4 / 23
الكثيرون ينسبون وباء كورونا للخفاش الصيني حتى قبل أن تبثث أية دراسة علمية سببَ الوباء ومصدره، والكثيرون يقرفون ويستهزؤون ويعيبون على الصينين هذا الشذوذ الغذائي وننسى أن سلة الغداء تتسع وتضيق بظروف الأوبئة والمجاعات والحروب والمعتقدات ، وننسى أن الإنسان على مر التاريخ اضطر أن يأكل الوحوش ولحوم البشر لأنها السبيل الوحيد للبقاء.
حين خاضت الصين حربين شهيرتين مع اليابان وحرب أهلية داخلية طاحنة اضطرت الصينيين ليأكلوا جميع أنواع الحشرات والفئران والسحالي والثعابين والخفافيش والحيوانات النافقة وأوراق الأشجار ولاحقوا القطط والكلاب في الشوارع لافتراسها .
عام الجوع
المغاربة لم يكونوا أفضل حالا من الصينيين وفي نفس فترة الحرب العالمية الثانية التي لازال المغرب آنذاك تحت حماية الاستعمار الفرنسي حيث سيطر الجفاف والقحط والأوبئة والضغوطات الاستعمارية لتمويل الحرب، فاضطر المغاربة لأكل القطط والخنازير والقنافذ واللقالق والثعالب والجراد المقلي والمشوي ناهيك عن نباتات يرني والبقولة والكرنينة والترفاس والحميضة وجمامخ الدوم وكثيرا من النباتات كان يأكلها المغاربة تؤدي لتقرح المعدة والتسمم بل وحتى الموت ويقول المؤرخ "جرمان عياش" أن مجاعة 1945 تحالف فيها الجوع ووباء التيفوس والطاعون والحمى لأنها كانت سنة عجفاء تصاعدت فيها حدة الأوبئة وحدة الأمراض والجفاف والضرائب (ضريبة الترتيب) ومات فيها الناس جوعا، إذ يروي أحد الأشخاص المسنين كيف أنه كان جالسا قرب أخيه لما شرعت الكلاب في قضم أذني أخيه دون أن يقوى على ردها لأنه كان هزيل البنية من شدة الجوع .
تتحدث المصادر التاريخية أن المغرب واجه ما يزيد على 46 وباء بمعدل 3,5 وباء كل قرن ، وفي سنة 1232 يقول "ابن أبي زرع" في كتابه "القرطاس" " اشتد الغلاء بالعدوة فأكل الناس بعضهم بعضا وكان يدفن في الحفرة الواحدة مائة من الناس"
مجاعة 1945 كانت أخطر مجاعة عرفها المغرب منذ حكم السلطان "المولى إسماعيل" يقول المؤرخ "جيرمان عياش" الذي عايش ظروف المرحلة أنه تفشت أمراض السل والرمد والزهري (أمراض مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية البئيسة) ووضع الاحتلال الفرنسي إجراءات احترازية كعدم التنقل بين المدن إلا لمن خضعوا للتلقيح وطُبعت أدرعهم بطابع أحمر أو من يمتلكون ورقة "دعه يمر " ، وقد كلفت الإدارة الاستعمارية المراقب المدني والشيوخ والمقدمين بتوزيع المواد الغذائية عن طريق بطائق للتموين تتعلق بالزيت والسكر والشاي والقهوة والصابون والخضر والوقود والأثواب والألبسة توزع على متاجر الأحياء .
ولأن الجوع كافر ويُخرج الذئب من الغابة قد أكل المغاربة كل ما وجدوه في طريقهم مثلهم مثل باقي الشعوب الأخرى وباعوا ممتلكاتهم بحفنة شعير ، وانتزع المعمرون وعملاؤهم أراضيهم عنوة ،وكانت الكلاب تنهش الجثث في الشوارع .
يقول "روبيرو دي كاسترو" الصحافي والكاتب البرتغالي في كتاب "جغرافية الجوع" : »ليس هناك كارثة أخرى تحطم شخصية الإنسان وتدمرها كما يفعل الجوع، فإن الفرد إذا استبد به الجوع لا يتورع عن القيام بأي عمل شاذ، إذ يتغير سلوكه من أساسه كما يحدث لأي حيوان نال منه الجوع وهو بالضبط ما وقع للمغاربة في سنوات المجاعة التي سبق وأن ضربت البلاد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما قبلهما«
أورد "محمد الأمين البزاز" في كتاب " الأوبئة والمجاعات" أن الإنسان المغربي افترس الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب، كما أكل لحم الخنزير والجيف ،ناهيك عن عادة بيع الأبناء والنساء التي تنتعش خلال سنوات الجوع ولم يتوقف الأمر وقت المجاعات عند حد بيع الأولاد والنساء، بل إن بعض الجوعى وأَدوا أولادهم للاستراحة منهم ومن أمثلة ذلك ذكر البزاز أن شخصا من مدينة الصويرة بلغ به اليأس مبلغه خلال مجاعة 1878 فحاول دفن ابنته الرضيعة حية مع جثة أمها لكن تمكن بعض الأشخاص من انتشالها من التراب قبل أن تفارق الحياة فعوقب الأب على فعلته بأمر من العامل بأن طِيف به على حمار في أزقة المدينة وجُلد 300 سوط.
غير بعيد عنا في مصر يتحدث "المقريزي" الذي فقد ابنته الوحيدة بوباء الطاعون في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة " عن كيف »كان يأكل الأب ابنه مشويًا أو مطبوخًا والمرأة تأكل ولدها، فكان يوجد بين ثياب المرء كتف صغيرة أو لحمة فيدخل بعضَها إلى جاره ويجد القِدر على النار فبعدما تتهيأ فإذا هي لحم طفل صغير وكان ذلك في أكابر البيوت، وكانوا يقبضون في الأسواق والطرقات على أناس معهم لحوم الأطفال وكانوا قد عاقبوا ثلاثين امرأة غرقا، ويحكي كيف تزايد الأمر حتى ألِفه الناس وقل التضييق عليه، ولا يمضي يوم حتى يؤكل عدد من البشر واستمر ذلك حتى جاء الغيث«
ويتحدث الرحالة المغربي "ابن بطوطة" في سياق رحلته عن أكلة لحوم البشر أن القبائل الأفريقية السوداء يفضلون الأسود على الأبيض في طعامهم فالأبيض نيئ وأفضل اللحوم لحم الأنثى وأفضله الكف والثدي.
يقول "ابن بطوطة" في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار":»قدِمتْ على السلطان المالي "مَنسى سليمان" جماعةٌ من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم معهم أمير لهم، وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً وتكون فتحة القرط منها نصف شبر ويلتحفون في ملاحف الحرير فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادِمة، فذبحوا الخادمة وأكلوها ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها وأتوا السلطان شاكرين، وأُخبرتُ أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك وذكر لي عنهم أنهم إن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي .
عندما أحاط الجيش النازي بمدينة لينينغراد وحاصرها في صيف 1941 و منع إمدادات الطعام عن المدينة مما أدى لحدوث مجاعة، وقام الناس بأكل حيوانات حديقة الحيوان ثم الحيوانات الأليفة وبدؤوا في غلي الجلود لصنع هلام صالح للأكل ، وبعد حصار طال 827 يوما فقد واجهت المدينة خيار الجوع حتى الموت أو التحول إلى آكلي لحوم البشر من أجل البقاء وقد اختار الكثيرون الخيار الثاني .
ذكر "ابن الأثير" في كتابه "الكامل في التاريخ " كيف كان الناس يأكلون بعضهم ولما اشتدَّ الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير (القطط) وأخذَ بعضهم ومعه صبي قد شواه ليأكله، وأكل الناس خرّوب الشوك فأكثروا منه، وكانوا يسلقون حبّه ويأكلونه، فلحِقَ الناس أمراض وأورام في أحشائهم وكثُر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم.
ولم تسلم مكة من حوادث أكل لحوم البشر كما يؤكد ذلك "المقريزي" أنه في شهر شوال سنة 822 ه قدِم الخبر أن الغلاء اشتد بمكة فـعُـدمت بها الأقوات وأُكِـلَـتْ القطط والكلاب حتى نفذت، فأكلَ بعض الناس الآدميين وكثُر الخوف منهم حتى امتنع الكثير من البروز إلى ظاهر مكة خشية أن يُـؤكلوا.
في حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق سنة 2013 والذي دام لمدة عامين وبعد أن فتك الجوع بالرضع والمسنين والمرضى صعد الخطيب للمنبر ليٌفتي للجائعين بأكل القطط والكلاب فقام المصلون ليقولوا للإمام أننا أكلنا القطط والكلاب والحمير واختفت الطيور من سماء المخيم ، أما في مجزرة حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني في لبنان 1976 فإن اللاجئين هم من طالبوا بفتوى تجيز أكل الجثت بعد حصار وإبادة جماعية طالتهم أكثر من 50 يوما إبان الحرب الأهلية اللبنانية .
إلهة المجاعة
في الميثولوجيا لا يمكن لأحد أن ينشر المجاعة إلا بأمر من ليموس إلهة المجاعة ،ليموس في سلسلة الأنساب هي بنت أريس إله الحرب (مارس عند الرومان ) وإريس ربة الشقاق والفرقة ، وليكتمل السرد في الميتولوديا اليونانية والروماني فإنه لابد من أن تزرع إريس الشقاق ويعلن أريس الحرب وتنشر ليموس المجاعة
وكانت هذه الإلاهة في عرفهم ابنة الليالي السود ولَّدتها الليالي من نفسها، وكانوا يمثلونها بشكل امرأة هزيلة الجسم، نحيلة البدن، قد ذهب لحمها وذاب شحمها وشحب لونها، فبدت عجفاء جرداء، مقوسة الظهر، بارزة العظام، مسترخية المفاصل، لاصقة الجلد، مجوَّرة الصدغين، غائرة العينين، ممسوحة الثديين، ضامرة البطن، ناسلة الفخذين ، مغلولة اليدين.