دردشات مع روايتين: نيغاتيف، روزا ياسين حسن/ خمس دقائق وحسب، هبة دباغ

نصار يحيى
2024 / 7 / 12

لمَ نعود ونقرأ ما يطلق عليه بأدب السجون؟
هل تنطلي الإجابة بالبحث عن سرديات السجن، حيث نجده أنىّ التاريخ يعاود أستبداده و توحشه، كلما حاولت أصواتٌ صرخات حرية.
لعلّ السؤال الأهم ماذا قدمت هذه الأعمال غير ما نقرأه من شهادات الناجين والناجيات؟
في هذا السياق أحاول المرور على تجربة سجن مختلفة عن غيرها، تجربة نساء سوريات دخلن السجون، إسلاميات وشيوعيات وبعض شتى أطياف الحالة السورية.
هما روايتان:
نيغاتيف. من ذاكرة المعتقلات السياسيات، رواية توثيقية للروائية السورية روزا ياسين حسن.
خمس دقائق وحسب، تسع سنوات في سجون سورية. هبة دباغ.
وكان من المفترض أن أذكر أيضاً رواية (الشرنقة) للكاتبة والمعتقلة السياسية حسيبة عبد الرحمن -سنرى صدى كلماتها عبر (نيغاتيف) كأحد شهود العيان- لربما في مكان آخر.
(نيغاتيف) ترصد تجربة صبايا حزب العمل الشيوعي في سوريا -جرت العادة على التسمية صبايا بين صفوف الحزب وجمهوره-، صبايا يدخلن السجن أمهات وزوجات وأخوات معتقلين، بل أيضاً صبايا أخترن العمل السري، مناهضة منهن للإستبداد والدخول في مشروع الحلم كعنوان عريض للأمل والحرية، في بلد يعني ذلك بداهة سجن وتشريد ومعاناة لا تنتهي لهن وذويهن.
تمردنّ على "الإجماع الشعبي"؟
(خمس دقائق وحسب)، يوميات المعتقلة هبة دباغ، رهينة عن أخيها المتهم بتنظيم الإخوان المسلمين. استطاع الهروب إلى الأردن. لتدفع هي "البدل"؟.
العملان يتناولان فترة زمنية واحدة (ثمانينيات القرن الماضي مع القليل من قبله وبعده).
يتخلل ذلك أن الناجيات هنا من كلا الاتجاهين الشيوعي/الاسلامي، تزامن المهجع نفسه، تعرضن لأساليب التعذيب المتعارف عليها، والتي باتت أعراف وتقاليد مبوبة بالوصايا. تماشياً مع "الروح المعنوية" للإستبداد.
1-لنبدأ الحكاية مع (نيغاتيف)
تحاول الكاتبة روزا ياسين حسن في نيغاتيف، الروي عبر التسجيل والإصغاء للصبايا اللاتي دوّن بعضاً من يومياتهن في السجن، أخريات اعتمدمن الذاكرة الشفهية -تمت الرواية ما بين عامي 2006-2008 حيث طباعتها، إخلاء السبيل للكتلة الرئيسية تشرين الثاني 1991 - سيحتفلن الصبايا من كل عام بهذا اليوم- مع حالات اعتقلت لاحقاً واخر الافراج عام 98.
تعتمد (نيغاتيف) محاولة التوثيق خاصة أنها عنوّنت الرواية بأنها رواية توثيقية. وتطرح على نفسها السؤال:
" لا أعرف إن كان ثمة ما يسمى رواية توثيقية؟"
هذا العنوان وسؤالها المشروع جعل منها، تراقب وتسجل شهادات الصبايا. تعتمد لغة وصفية أكثر منها أدبية تحمل ممكنات الإيحاء والإيهام الفني، مما يقلل سوية المتخيل السردي بلعبة المجاز اللغوي، حيث القارئ المتلقي مدعواً للمشاركة.
تنطلق في مقدمتها من الإشارة للعديد منهن، بالاسم الحقيقي الأول والاكتفاء بالحرف الأول من النسبة: (ناهد.ب، هند.ق، حسيبة.ع، لينا.و، لينا.أ، بثينة.ت، هند.أ، اميرة.ح، سمر.؛، فاطمة.ع، ضحى.ع، والكثيرات الأخريات. تجاوز عدد الصبايا الخمسين بين أعوام 1977-1993).
من الضروري هنا التعرف لطريقة (الراوية) في محاولة تغطية (الحكاية-الوثيقة)، زمن مستطيل واعتقالات متعددة، حيث المكان (السجن) أيضا مختلف بين فرع وسجن شبه مدني (قطنا، دوما).
هنا استلهمت سرديات الحكايا، حيث ننتقل من موضع لأخر بزمن مختلف قليلاً روزيت. ع زوجة أكرم.البني. نسمع قصة اعتقالها الثاني 1992، ثم تعود بنا لاعتقالها الأول 1978، لتقول أن هناك سجن آخر اسمه الحلبوني تابع لفرع أمن الدولة. وكان في أيام غابرة قصراً للرئاسة. وكان عددهن إحدى عشرة معتقلة.
هند.ق من اعتقال 82 ومنفردتها إلى اعتقال 84 ؛
تتعرض لتعليق في المنفردة فترة طويلة، تعذيب ترافق مع حقد شخصي من المحققين.
تُرحّل لسجن قطنا النسائي، وكانت صدمتها الأولى عندما اقتربت بمساعدة الشرطي لمهجع السياسيات (اسلاميات):
"كش برا وبعيد مو ناقصنا كافرة، خدها لمهجع آخر" ؟!
في سياق ذلك تصف لنا سجن قطنا، المخصص للقضائيات (دعارة، حشيش، قتل..). سيضاف مهجعين "غرفتين" للسياسيات.
حسيبة.ع خبيرة الاعتقال بين أعوام متعددة 79، 86 ومنتصف التسعينات. وتعرضها لتعذيب شديد.
حسيبة وهي في سجن دوما تلتقي إحدى المرات -على رصيف " الغسيل"- (عزيزة جلود) زوجة إبراهيم يوسف صاحب مجزرة المدفعية بحزيران 79. تسألها " لفتح حديث"؟
"سبعتِ الغسيل، كناية عن نمط الغسيل بالماء سبع مرات". تماشياً مع المأثور الإسلامي. ولسان حال حسيبة يقول: نعم نختلف في السياسية والفكر. لكننا نعيش نفس المكان (السجن).
كانت التجربة الأقسى لصبايا حزب العمل، هي حملة الاعتقالات 1986-1988، شملت الأخضر واليابس/ لم تستثنِ حتى قارئ الجريدة السرية للحزب.
منهن كنّ رهينة عن زوجها (بثينة) واستطال اعتقالها ثلاث سنوات رغم اعتقال الزوج.
جرتْ العادة في العرف الأمني البطريركي، أنّ للنساء بعض "الحظوة"، أما هنا اقتربتْ "المساواة" حسب مقتضى الحال.
حالات اعتقلت بعد ولادتها لطفلتها الثانية بأربعين يوما (بثينة).
سناء.ح أيضا كان لها نصيب خاص من "التحقيق ".
استمر أكثر من أربعة أشهر. زاد الطين بلة، بعد الافراج عن بعض من كان معها في الفرع، إنها بقيت وحيدة مع آخريات من تهم أخرى. وكان "الخلاص" عندما نقلت إلى سجن دوما.
كانت معظم الصبايا حينها هناك.
أميرة.ح اعتقلت بعد زوجها (مضر) بشهرين ونصف في فرع الشمال (حلب).
تسمع أصوات المعتقلين؟
أين مضر؟؟ ينتابها الخوف: ربما في العاصمة.
تُنقل إلى العاصمة على أمل الصوت كما البقية يُراودُ الصدى؟؟
عبثاً..تدخل في التخمينات والهواجس.. في صيف العام 88 ، تعتقل غرناطة.ج تأتي باليقين:
إن مضر قد مات تحت التعذيب (استشهد).
حالات أنجبت وهن في السجن (رنا.م ، ضحى.ع). وبالصدفة كانتا طفلتين!
إحدى الصبايا (مجد) تعتقل وأختها بعد ثلاثة أشهر، بعد ثلاثة أشهر تلقتْ (مجد) ضربة من أحد المحققين على رأسها، أدت لحدوث كتلة دموية سببت لها نوبات صرع.
تختزن (نيغاتيف) الكثير من قصص التعذيب والتحقيق للصبايا، وكان الأكثر عسفاً أن تتم "ركلات" التعذيب بصدى صوت الزوج او الحبيب أو الأبن والأخ. تتلوى الصرخات كلما نودي ب "الكبل الرباعي" على جسد الضحايا، تتلقفه الزنازين حيث الصبايا يصغينَ الآلام / ليست قادمة من برية بعيدة رسمتها "أساطير الأولين"، إنما تسكن جوانية المكان/.
حينما يرخي الليل ظلاله، يُرهقُ السجان ويستريح على وقع "انتصاراته". ترتشف الانوثة شجوها رغم هذا الوجع.
تبدأ بثينة بفيروزياتها:
"بكرا لما بيرجعوا الخيالة، بترجع يا حبيبي، يصدحُ الصوت ممرات الفرع، يغيبُ الرعبُ.. يردُ عليها المعتقلون والزنازين الأخرى حتى الصباح".
دونتْ ماقمن به البعض ناهد وهند من الكتابة على دفتر صغير في سجن دوما.
وكانت الرسائل التي تمت بشكل سري للتواصل مع الأهل خاصةً ممن بقي في الفرع العسكري. / كان "الحمام الزاجل" يقوم بذلك./ "الحمام الزاجل" هو من تسمية الصبايا، سجان أبدى تعاطفه الإنساني. تمرد على اللوائح. يدفع الثمن غالياً عندما يكتشف. يُعذب على مسمع من الزنازين والغرف كي يكون عبرةً لنفسه ولغيره.
تنقلُ لنا ( نيغاتيف) بعضاً من نشاطات الصبايا خاصة في سجن دوما، نشاطات مسرحية بإمكانات بسيطة جداً، حلقات ثقافية سياسية ستتراجع مع ظلال السجن، يحاولن اصدار مجلة (الجرح المكابر).
هذه الشذرات وكثير من الاقتباسات-المجال لايتسع هنا لذكرها- هي محاولة ترميم أو معادلاً ما موضوعياً عن غياب المتخيل السردي.
لعل طبيعة الأختيار وعدم الخبرة في الكتابة عنه جعل من النص يتأرجح ويتمايل بين نصاً أدبياً أم وثيقة وشهادات للصبايا ممكن المضطلع والمهتم أن يحصل عليهن بسهولة.
يسجلْ هنا للروائية روزا ياسين حسن ومن خلفها سرديات الصبايا:
أنهن كنَّ متفهمات للرأي الآخر داخل السجن ( الإسلاميات) رغم ظلال الموقف السياسي.
سوف يرخي ذلك بظلاله على الكاتبة أنها تقتبس من رواية (خمس دقائق وحسب. هبة دباغ).
2-خمس دقائق وحسب، تسع سنوات في سجون سورية.
هي الراوية وهي السجينة (1980-1989). تروي يومياتها من اللحظات الأولى في فرع الخطيب للأمن الداخلي في دمشق.
كانت تدرس الشريعة في جامعة دمشق. عائلتها تسكن مدينة حماه. سوء حظها جعل منها تدفع القربان، هي لم تكن داخل التنظيم ( الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)، إنما بعض أفراد العائلة، وأحدهم سوف يهرب إلى الأردن وينجو بنفسه.
كان الشتاء دامساً برحلتها الأولى، حينما انطلقت الرحلة- المأساة 1981. ينتهي التحقيق (التعذيب). وتبدأ "الاقامة المتنقلة" بين أقبية الفروع وسجني قطنا ودوما القضائيين.
بعد فترة ليست ببعيدة سترى أمها بنفس الفرع -كانت قد ذهبت للبيت الذي اعتقلت منه هبة. باتَ "مهجعاً" للعناصر-، لكن أمها لم تطلْ " إقامتها" في الفرع. يفرج عنها. لم تكن تتوقع انَّ موعدٌ آخرَ ينتظرها. شباط 1982، حيث حماه مدينتها تشهد حمّام دم. ستكون هي وزوجها وابنائها المتبقين، في عداد الضحايا. إنها الفاجعة.
في ظلال الفاجعة تكتب بعد الإفراج عنها:
"كانت المدينة تنطقُ بالوحشة أنىّ اتجهت، النواعير التي طالما حركت بأنينها شجى القلوب، أراها خامدة وقد جفَّ من تحتها العاصي..".
تصف في الكثير من الدقة أماكن احتجازها، (كفرسوسة، سجني قطنا ودوما، ومحطة قصيرة في فرع التحقيق العسكري).
تروي تفاصيل اعتقالات الإسلاميات منهن الرهينات ومنهن من شاركت بعمل ما، في سياق الاشتباك المتبادل بين الإخوان المسلمين والنظام. خاصة تلك المعتقلات اللاتي أودعن سجن تدمر الرهيب.
وكان الطفل (معقل) الذي ولد هناك. سيبقى خمس سنوات ويفرج عنه مع أمه.
بعد أضرابهن في كفرسوسة، تم ترحيلهن إلى سجن قطنا، سيكون استقبالهن مختلف كليا:
"ما إن تحركت سيارة المخابرات، حتى أقبل الشرطة علينا، يدعوننا إلى غرفتهم إكراماً لنا..ينظرون إلينا نظرات الاستغراب، ولا تلبث أن تدمع عيونهم..أحدهم خمسيني: اطمئنوا اخواتي..ستعيشون هنا عيشة طبيعية.."
تحاول هنا رسم الاختلاف بين "المخابرات" والشرطة. لربما تفلت اللغة نحو الأستراحة من هذا الوجع.
لكنها حينما تتكلم عن الأخر( الأخريات) من تنظيمات أخرى، خاصة الشيوعية. نجد اللغة تميل للرجم:
منيرة مصطفى (كانت بعمر 18 سنة، متهمة بتنظيم شيوعي) توردها ضمن عنوان "أبناء النظام ضد النظام" للإشارة للجانب الطائفي لمنيرة. لكنها بعد فترة تصفها بأنها متفهة لهن، في احترام طقوسهن، وشاركتهن في الإضراب.
فاديا لاذقاني (حزب عمل شيوعي) تشير إليها بصريح الاتهام بعلاقة ما مع الفرع، دون أي دليل، أنما بعض الأوهام، لربما تعود المسكونية الوسواسية، حيث السجن مكان خصبٌ للاتهام؟؟
في مكان آخر عندما التقت(الصبايا) في سجن دوما تكتب عنهن بصيغة استحالة التعايش!!
على العكس من ذلك، تكتب (نيغاتيف) إنهن كن متعايشات ومتفهمات للمسافات بينهن. والأهم من ذلك أنه بات هناك بعض الصداقات الحقيقية.
رياض الترك ( بقي في زنزانته 17 سنة) -كانت قد رأته عبر شراقة المنفردة وهو بجوارها في فرع التحقيق العسكري- بين كلماتها غمز ما أنه أحياناً كان يطبخ لعناصر الفرع، وتتفاجأ كيف استطاع الحصول على "راديو"؟!
لمَ هذه الاشارات؟
أعتقد انها تنطلق من الانغماس بالأنا "الديني" الذي يرى بنفسه أمتيازاً وجودياً، على كل مخالفيه، ليس هناك من غير "المؤمنين والمؤمنات". حيث الأنا هي المبتدى والمنتهى.
هل كان بإمكانها وهي تكتب أن تصغي لصوت آخر؟
سؤال يستمد مشروعيته من أنها تروي وتكتب مايشبه "الشهادة، الوثيقة".
الاستغراق لصوت الأنا المتكلم، جعل من النص، صوتاً أحادياً راجماً.-

حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت