|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
ادم عربي
2025 / 11 / 5
بقلم : د . ادم عربي
ما الذي يجعل أمةً تتقدّم وأخرى تتأخر؟
ليس غياب الموارد أو ضعف الذكاء، بل غياب أمرين بسيطين في الظاهر، عميقين في الأثر هما القدرة على قول "لا"، والقدرة على طرح الأسئلة.
هاتان الكلمتان القصيرتان في اللفظ، الطويلتان في المعنى تختصران مأزقنا الحضاري، نحن العرب، في التربية والفكر والعلم.
الأمم لا تتقدّم عندما تبالغ في تمجيد نفسها، ولا عندما تبالغ في جلد ذاتها. فكلا الطرفين مرضٌ يعكس غياب الوعي.
نحن بحاجة إلى النقد الذاتي لا إلى جلد الذات، فالتقدّم يبدأ من الاعتراف بأخطائنا، لا من إنكارها أو جلد أنفسنا بسببها.
إنَّ أخطر ما قد نُصاب به هو العمى عن رؤية عيوبنا، لأن من لا يرى ضعفه لا يستطيع أن يتجاوزه.
نحن أمة تقول "نعم" أكثر مما تقول "لا"
كم مرة كان علينا أنْ نقول "لا" ولم نفعل؟
كم مرة خنقنا الكلمة في صدورنا، رغم اقتناعنا بأن قولها كان الصواب؟
نحن في الغالب أمة "نعم"، بالمعنى السلبي. نقولها خجلاً أو خوفاً أو مجاملة، لأننا لم نتعلّم في بيوتنا ومدارسنا كيف نرفض بأدب، أو كيف نتمسّك بما نراه حقاً.
خذ مثالاً بسيطاً:
لو كنت منشغلاً بعمل مهم وجاءك ضيف بلا موعد، هل تستطيع أن تقول له بأدب: "أعتذر، أنا مشغول الآن"؟
أم أنك ستترك كل شيء وتضحّي بوقتك حتى لا تُتَّهم بالوقاحة؟
وماذا لو كنت صاحب عمل وجاءك شخص ذو نفوذ يطلب منك توظيف من لا يستحق؟
هل تستطيع أن تقول له "لا" بوضوح؟
غالباً لا. لأننا لم نتعلّم أنْ نرفض. لقد رُبّينا على الطاعة لا على الموقف، وعلى المجاملة لا على الصراحة.
إنّ التربية التي لا تزرع فينا الجرأة على قول "لا" تخرّج أجيالاً خاضعة، لا قادرة على التغيير.
وتعلّم "لا" لا يعني الرفض الأعمى، بلْ يعني أنْ نعرف متى وكيف نقولها. إنها مهارة أخلاقية قبل أنْ تكون موقفاً شخصياً.
إذا كانت "لا" هي مفتاح الكرامة الشخصية،فهناك أيضاً "لماذا" هي مفتاح التقدّم العقلي.
فالأمم التي لا تسأل لا تعرف، لأنَّ السؤال هو أول الطريق إلى العلم.
السؤال درجات: نبدأ بـ "متى" و"أين" و"كيف"، ونصل إلى القمة عندما نسأل "لماذا".
ومن هذه الكلمة القصيرة وُلدت الفلسفة والاكتشاف والعلم.
كل الناس شاهدوا التفاحة تسقط، لكن نيوتن وحده سأل:
"لماذا تسقط إلى الأسفل وليس إلى الأعلى؟"
ومن هذا السؤال وُلد قانون الجاذبية.
خذ أي حقيقة بديهية اليوم مثل أنَّ الأرض تدور حول الشمس واسأل:
"لماذا الأرض هي التي تدور وليس العكس؟"
هذا هو الفارق بين من يكرّر المعلومة، ومن يكتشفها.
حتى في الصحافة، الخبر وحده لا يكفي.
يجب أنْ نسأل: لماذا حدث؟ ولماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟
هكذا ننتقل من نقل المعلومة إلى تحليل الواقع.
السؤال هو ما يجعل الصحفي مفكّراً، والعالم مكتشفاً، والمجتمع حيّاً.
أما غيابه فيحوّلنا إلى أمة من المقلّدين، نحفظ الإجابات دون أنْ نفهم الأسئلة.
وهناك مشكلة لا تقل خطورة عن سابقتها وهي أننا نعيش في أمّة الأجوبة الجاهزة.
نملك لكل قضية جواباً مسبقاً، ونظن أنَّ كل ما يكتشفه الآخرون هو في الأصل "اختراع عربي قديم"!
بهذا الوهم، نُغلق باب المعرفة ونُخدّر عقولنا بشعور زائف بالعظمة.
كيف نتقدّم إذا كنا نعتقد أننا نعرف كل شيء؟
وكيف نبتكر إذا كنا نرى في كل جديدٍ "دليلاً" على أننا كنّا أول من عرفه؟
لقد آن الأوان أنْ نكفّ عن عبادة "الإجابات المطلقة"، وأنْ نتحوّل إلى أمة السؤال.
أنْ نملأ عقولنا بشكٍّ إيجابي، كالذي تحدّث عنه ديكارت، ونقتدي بتواضع سقراط حين قال:
"كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئاً."
المعرفة التي تبقى ثابتة رغم تغيّر الزمان والمكان ليست علماً، بلْ جموداً.
العلم هو تحديد وتخصيص وسؤال دائم.
فلنتعلّم أنْ نقول "لا" عندما يجب أنْ نرفض،
وأنْ نسأل "لماذا" عندما يُطلب منا أنْ نسكت.
بهاتين الكلمتين، يبدأ طريق النهضة الحقيقي.
ليست الحضارة أبراجاً تُبنى ولا شعاراتٍ تُرفع، بلْ هي طريقة في التفكير والسلوك.
وحين تعلّم الأمة أبناءها أنْ يقولوا "لا" للخطأ، وأنْ يسألوا "لماذا" عن كل ما يُفرض عليهم،
فإنها تكون قد وضعت أول حجر في بناء نهضتها الحقيقية.
إنّ الأمم لا تنهض بالتصفيق للحاكم، ولا بتكرار ما قاله الأجداد،
بلْ بطفلٍ صغيرٍ يرفع يده في الصفّ ويسأل: "لماذا؟"،
وبرجلٍ راشدٍ يجرؤ أنْ يقول: "لا" حين يكون الجميع صامتين.