|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
ضحى عبدالرؤوف المل
2025 / 11 / 4
يتبدّى أن النفق أنه ليس ممرًّا هندسيًّا في رواية «من زاوية النفق» للكاتبة" نادين أيمن" ولا مكانًا مادياً، بل حالة وجودية يعيشها الإنسان حين يُسلب من قدرته على التواصل مع ذاته ومع الآخرين. إنه الفضاء الذي يتكثف فيه القمع والخوف والارتياب، حتى يصير المكوث فيه نوعاً من السجن الطوعي، كأن الشخصيات لم تُجبر على الدخول إليه بقدر ما انجذبت إليه بسلطة غامضة. هذه المفارقة هي ما يمنح النص عمقه: فالنفق ليس جدراناً خرسانية بل منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع الخارجي ، فهي تنتمي إلى ذلك النمط الأدبي الذي يلتقي عند تخوم الفلسفة والميتافيزيقا، حيث يتحول المكان إلى مرآة للوعي الإنساني، والظلام إلى حقل تأملي في معنى الوجود والعدم. ليست «في زواية النفق» مجرد عمل سردي عن عتمةٍ تحت الأرض، بل هي استعارة كبرى للعصر الحديث بكل انغلاقاته وخساراته، وبحث عن النور في زمنٍ يتكاثر فيه الضياع. نادين أيمن لا تقدم عالماً يمكن قراءته على نحوٍ مباشر، بل تزرع في نسيج السرد شبكة رموزٍ تتخللها طبقات من التأويل، تجعل من الرواية تجربة فكرية قبل أن تكون حكاية.
تتعامل الكاتبة مع المكان بوصفه الكائن المركزي في الرواية. كل ما عداه يدور في فلكه، من الشخصيات إلى الأحداث. الجدران في هذا العالم ليست ساكنة، بل تتنفس، تراقب، وتعيد صياغة وعي ساكنيها. الضوء الذي يتسلل عبر الشقوق النادرة لا يؤدي وظيفة بصرية بقدر ما يحمل دلالة فلسفية، إذ يشير إلى الأمل الهش الذي يصر على الوجود رغم الخنق المحيط به. في مقابل هذا النور، يتكاثر الظلام ككائنٍ حيٍّ يبتلع الأصوات والأنفاس، حتى تغدو اللغة نفسها عاجزة عن إيصال المعنى. من خلال هذا البناء المكاني الكابوسي، تطرح الرواية سؤالها الأساسي: ما الذي يبقى من الإنسان حين تُسلب حريته وتُفرغ ذاكرته من المعنى؟ فالنفق لا يعزل الجسد فقط، بل يعيد تشكيل الروح وفق منطق الخوف والانصياع. في هذا المعنى، يصبح العمل تأملاً عميقاً في طبيعة السلطة، ليس بمعناها السياسي الضيق، بل كقوة تتسلل إلى الوعي وتتحكم بطريقة التفكير والإحساس. الشخصيات التي تعيش داخل الأنفاق ،المفكرون، الفنانون، المهمشون ،ليست سوى تجليات مختلفة لهذه الهيمنة التي تلغي الفرد لصالح الجماعة الصمّاء.
تنحت نادين عالمها بلغةٍ متوترة، متشابكة الإيقاع، تتراوح بين الحلم والهلوسة، بين السرد الواقعي والفنتازي. هذا المزج ليس ترفاً أسلوبياً، بل هو الطريقة الوحيدة القادرة على التعبير عن واقعٍ يتجاوز التصنيف. فالنفق في جوهره تجربة «بين بين»؛ بين الموت والحياة، بين الحقيقة والوهم، بين الداخل والخارج. لذلك لا يمكن للرواية أن تُقرأ وفق منطق الأحداث، بل وفق منطق الرؤى: كل مشهد فيها يمثل طبقة جديدة من الوعي الجمعي الذي يعيش انحداره المستمر.
ما يميز الرواية أنها لا تكتفي بتقديم ديستوبيا مغلقة على نفسها، بل تحاول فتح ثغرات نحو الأمل. فوسط هذا الخراب المتكاثف، يظل البحث عن الحقيقة هو المحرك الأساسي للسرد. الحقيقة هنا ليست مطلقة، بل مجزأة، تتبدى عبر وجهين: الحقيقة ونصف الحقيقة. إنّ إدراك الروائية بأن العالم لا يُختزل في يقينٍ واحد يجعل الرواية تحتفي بالشكّ، وتحوّل الحيرة إلى قيمة معرفية. فالشخصيات لا تسعى إلى الخلاص بقدر ما تسعى إلى الفهم، إلى إعادة بناء معنى الوجود داخل فضاءٍ يهدد كل معنى. من الناحية البنيوية، يمكن القول إن «النفق» تستند إلى تعدد الأصوات السردية، حيث تتقاطع الحكايات وتتشابك في خيوطٍ متوازية تشبه المتاهة. هذا التعدد لا يُقصد به الإرباك، بل يُستخدم كاستراتيجية سردية تكشف كيف يفقد الخطاب الواحد قدرته على تمثيل الواقع. فكل شخصية تمتلك روايتها الخاصة للعالم، وكل سردية تُفنّد الأخرى، ما يجعل الرواية ذاتها انعكاساً لبنية النفق الذي لا نهاية له. وبهذا تبرهن الرواية على أن الحقيقة ليست في الوصول، بل في التيه نفسه.
أما من حيث التخييل الفلسفي، فإن العمل يطرح رؤية عن الإنسان الحديث بوصفه كائناً محاطاً بالخرسانة المادية والرمزية معاً. العالم الخارجي، كما تصوره الكاتبة، لم يعد أرحم من النفق؛ بل صار امتداداً له في صورة أكثر بريقاً. فالمدينة فوق الأرض تحاكي المدينة تحت الأرض في ما يخص الخضوع والاغتراب. بهذا المعنى، تصبح الرواية نقداً حضارياً يتجاوز السياق المحلي إلى قراءةٍ كونية لمصير الإنسان حين تُفرغ التكنولوجيا والسياسة والثقافة من بعدها الإنساني.
لغة الرواية تنحاز إلى البنية الشعرية أكثر منها إلى السرد الخالص. الجمل قصيرة متقطعة أحياناً، تتنفس ببطء، كأنها تبحث عن منفذ هواء في هذا المكان المغلق. الإيقاع اللغوي نفسه يعكس فكرة الاختناق: فالتكرار المقصود لبعض الصور — الجدران، العتمة، الصوت، الصدى — يعيد إنتاج الإحساس بالدوران داخل الدائرة نفسها. ومع ذلك، يظهر في بعض المقاطع وميض ساخر أو حلمي يذكّر القارئ بأن هذا العالم، رغم قسوته، لا يخلو من إمكانية التبدّل.
من منظورٍ نقدي، يمكن اعتبار «النفق» واحدة من الروايات التي تسهم في تطوير الشكل العربي للديستوبيا، إذ تنقل هذا الجنس الأدبي من فضاء السياسة المباشرة إلى فضاء الوجود الإنساني العميق. فبدلاً من تصوير مجتمع شمولي على النمط التقليدي، تسعى الكاتبة إلى كشف البنية الذهنية التي تجعل القهر ممكناً، والاغتراب طبيعياً. إنها رواية عن «المجتمع من الداخل» أكثر مما هي عن سلطة خارجية قاهرة، ولهذا تأتي قوتها من بعدها النفسي لا من خطاباتها الأيديولوجية. ومع أن الرواية تغوص في العتمة، إلا أنها لا تنتهي في اليأس. فالفكرة الخاتمة التي تهمس بها هي أن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من إعادة اكتشاف الذات وقدرتها على المقاومة الفكرية والجمالية. الضوء الذي يتسلل إلى النفق ليس وعداً بالنجاة، بل تذكيراً بأن الإنسان، مهما غرق في ظلام العالم، يظل قادراً على التطلع إلى الأعلى.
بهذا الوعي المزدوج ، وعي الخراب ووعي الاحتمال ، تنجح «في زاوية النفق» في أن تكون أكثر من رواية عن الظلام؛ إنها رواية عن الإصرار على الرؤية في قلب العتمة. وإذا كانت الديستوبيا عادةً تكتفي بتصوير النهاية، فإن هذه الرواية تكتب ما قبل النهاية بقليل: اللحظة التي يقف فيها الإنسان بين الفناء والاختيار، ويكتشف أن الطريق إلى الخارج يبدأ من داخل النفق نفسه. باختصار، فالنفق رواية عن العالم المعاصر حين يُسجن في ذاته، عن الإنسان الذي تحوّل خوفه إلى موطنه، لكنها أيضاً عن الحلم الصغير الذي يصرّ على أن يحيا. عملٌ يمزج بين الرمز والواقع، بين الفلسفة والفنتازيا، ليقدّم مرآةً لما صرنا عليه وما يمكن أن نكونه، إن امتلكنا الشجاعة للخروج من أنفاقنا الخاصة نحو ضوءٍ حقيقيٍّ ينتظر منذ زمنٍ بعيد. رواية تثير زوبعة من التساؤلات. فهل يمكن للنفق أن يكون مجرّد ممرّ، أم أنه قدرنا الوجودي الذي صنعناه بأنفسنا؟وهل الظلمة التي نحياها هي من صنع السلطة أم من اختيارنا نحن؟و هل النور في نهاية النفق حقيقة، أم وهمٌ نُبقيه حيّاً كي لا نفقد معنى الحياة؟وهل ما نسمّيه تقدّماً ليس سوى هندسة أكثر دقّة لدفننا تحت الأرض؟ وهل الإنسان في النهاية قادر على أن يخرج من أنفاقه الداخلية، أم أن خروجه نفسه سيكون شكلًا آخر من أشكال العمى؟ وهل هي عن زمن خانق لكنه شفاف؟
بيروت-لبنان- في 4 تشرين الثاني 2025الساعة السابعة والنصف مساء
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |