من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية

سعد العبيدي
2025 / 9 / 23

منذ سنوات، طُرحت فكرة "الإبراهيمية" كإطار جامع للأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية. مشروعٌ سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى توظيفه سياسيًا، بدعوى جعله جسرًا للسلام، وسبيلًا إلى تجاوز الصراعات التاريخية عبر التقاء تلك الأديان على قيم مشتركة. وقد استمر بدفعٍ معقول، حتى جاءت حرب غزة، ومن بعدها قصف قطر، ليختبرا هذه الفكرة اختبارًا قاسيًا، ويكشفا بالمحصلة عن خللٍ عميق في توازن النوايا والقدرات بين الأطراف المنخرطة فيه.
إن نجاح مثل هذه المشاريع من المنظور النفسي لا يتحقق بوجود مصالح سياسية معلنة وشعارات أخلاقية فحسب، بل يقوم على تقارب فعلي في البنية النفسية للأطراف: أي أن تكون لديهم استعدادات متقاربة للتعاون، وإيمان متبادل بالعدالة، وقدرة على ضبط نزعات السيطرة أو الهيمنة. إذ إن المشاريع المشتركة تنهار في العادة حين يشعر طرف بالضعف، ويوظّف آخر أدواته لإخضاع الطرف المقابل بدل مشاركته، أو حين تهتز الثقة كركن أساس من أركان الديمومة. فعندما يُترك أطفال يموتون جوعًا على سبيل المثال، أو تُقصف مستشفيات أمام أنظار العالم، وتُستهدف خيام النازحين، يصبح الخطاب عن الأخلاق والقيم المشتركة مجرد تناقض معرفي، وغطاءً لشرعنة القتل والدمار، وهو ما يضعف المصداقية ويفقد أي مشروع شرعيته النفسية قبل السياسية.
كما أن نجاح مثل هذه المشاريع الحساسة يحتاج إلى إدامة زخمٍ لا يتحقق بمجرد وجود أهداف معلنة، وإنما من خلال طبيعة العلاقات داخل المشروع، والتي يجب أن تقوم على تكافؤ نسبي في القدرات والنيات، بما يكفي للمحافظة على التوازن النفسي بين الأطراف، حكامًا وشعوبًا. فبغياب هذا التوازن، يتحول المشروع إلى علاقة تبعية تُخلّف على المدى الطويل إحباطًا وعجزًا، وفي الحالات الشديدة تولّد مقاومة نفسية لا واعية من الطرف الأضعف.
وعليه يمكن الاستنتاج أن "الإبراهيمية" بصيغتها الراهنة تبدو أقرب إلى مشروع شكلي يوظَّف سياسيًا لتكريس موازين قوى ذات نفاذ أحادي في المنطقة، لا إلى إطار إنساني حقيقي. ولكي تستعيد معناها الأخلاقي والنفسي، لا بد أن تُعاد صياغتها كالتزام عملي بالعدالة، تُقاس صدقيته بقدرته على منع الحروب والاستغلال ووقف الجرائم وأعمال الإبادة العنصرية.
وأي مشروع جامع لا ينجح إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط نفسية أساسية:
تقارب القدرات بحيث لا يكون طرف عاجزًا والآخر متسلطًا.
توازن النوايا بحيث يسعى الجميع إلى العدالة لا إلى الاستغلال.
ذاكرة جماعية صادقة تتعامل بشجاعة مع الماضي بدل إنكاره أو توظيفه سياسيًا.
وإلى أن تتوفر هذه الشروط في منطقتنا المضطربة، ستظل شعارات ومساعي "الإبراهيمية" وحدها عاجزة عن حماية الأرواح أو إيقاف نزيف الدم، وستبقى مشاعر العدوان طافية على أسطح الوعي الجمعي لأجيال متعاقبة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي