|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
سعد محمد مهدي غلام
2025 / 9 / 7
تمهيد
النص وظف مفهوم "الفوبيا" لا بوصفه اضطرابًا نفسيًّا، بل باعتباره علامة شعرية / ثقافية تكشف عن قلق الوجود. تتحوّل الرهابات إلى تَراسيم، أي خرائط دلالية كثيفة، تعيد تشكيل العلاقة بين الجسد والروح، بين الذات وظلّها، بين الحاضر وطبقات الأسطورة.
في النّص تتقاطع الميثولوجيا الرافدينية (باب إيل، نمرود، أوروك)1، مع التجربة الوجودية (دازاين عند هايدغر)2، وتتشابك الإشارات الصوفية (الغيث، النافلة، الطواسين)11 مع رموز فلسفية /ثقافية عابرة للتخصصات. بهذا الانفتاح، يغدو النص ميتافيزيقا للرهاب، لا تعرض الخوف في صورته السريرية، بل تحوِّله إلى استعارة كونية تكشف القلق وتحوّله إلى أفق شعري.
إن "زهرة الكادابول" ليست مجرد زهرة أسطورية نادرة، بل هي علامة مركزية تُمثّل التوتر بين الموت والحياة، بين الخراب والرغبة في الخلق. ومن ثم، يمكن النظر إلى النص بوصفه مشروعًا سيميائيًا – تأويليًا، حيث تتراكب العلامات النفسية مع الرموز الحضارية في شبكة دلالية مفتوحة على تعددية القراءات.
(النص)
غَرِقَ القاربُ، فما نفعَ المجاذيفِ؟
كْلُوستروفوبيا*١،
اِحْمَرَّتْ عَيْني، والعَوْسجُ قريبٌ وأنا في فَالِقِ بابِ إيل1،
خانِقُ أَرْخَبيلِ حُبٍّ وتاريخٍ،
النَّفْسُ حانوتُ يَنابيعَ مارقةٍ،
والقَلْبُ صندوقُ فيروزٍ ماجِن.
أَكْلوفوبيا*٢،
صُودِرتِ الرؤيةُ وتَصَدَّعَتْ غَفوةُ نَمْرود1،
وعَضَّ اليباسُ مَفارِقَ النبضِ وفَخِذَ الرَّعشةِ،
فَتَفَتَّتْ صَفصافةُ المكانِ،
وتَحَلَّلَ صِلصالُ الماهيةِ،
وتَسامى عودُ الزمانِ.
أوتوماتونوفوبيا*٣،
اِخْتَصَرَ جسدي جَوهرَ سافاستيكا3بغُصَّةٍ، وبنَفْحةِ الدَّبورِ رَسَمَ الهويةَ شغفًا،
وأنا ألبسُ فِضَّةَ الصبحِ لَبِسَني أُرْجُوانُ الغروبِ،
دَرَجْتُ في السَّرابِ أَمْخَرُ سِرْبَ هاروت4المخبوءِ في سَفْطِ الوجودِ،
… فَاِنْتَعَلْتُ ظِلِّي حتّى غَرِقْتُ في دازاين2.
أتي فوبيا*٤،
اُشْرُدْ إلى مضاربِ المانوليا6 الباخوسيِّ الأخيرِ،
وكما عَجَنَ عَفَنُ السُّباتِ عُتْمَةَ أَرْزِ صَوْمعتِكَ،
سَتَتَخَمَّرُ حتّى تَتَأقْرَصَ، ولَتَخْبِزَنَّ في الحَيْرةِ،
… يُوَشِّحُكَ زَعْفَرانُ الشَّفَقِ ونُعاسُ الغُباشِ.
فيلوفوبيا*٥،
اِنْتَظَرْتُكِ الغَسَقَ في أوروك1 عند نافذةِ البحرِ الغامقِ،
… وَوَجَعي صارَ شِتاءً قُطْبيًا للتاريخِ الراسِبِ في أحشائي.
… تُرى هل تُنْقِذُ الفأْسُ السِّنْدانةَ8؟
هَمَدَتْ عُروقُ المَرْلينة9؟
اِنْتَصَرَ سانتياغو10؟
أَنْثْروفوبيا*٦،
… تُرى، هل تُنْقِذُ الفأْسُ السِّنْدانةَ؟
… تَذَكَّرتُ الصِّبا واشْتَقْتُ.
فأيا السُّمّار، قُولوا للسَّامرةِ:
أَلا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاَصْبِحيهِ،
وقِفي قَبْلَ التَّفرُّقِ،
يُخْبِرْكِ وتُخْبِريه.
خاتمة
يتبدّى النص كمرآة لقلق الوجود وحيرة الروح أمام فراغ المعنى، حيث تتحول الفوبيا إلى استعارات كبرى، وتغدو "زهرة الكادابول" صورةً للكينونة وهي تُزهر وسط العدم. إنه نص يقدّم الخوف لا كهشاشة، بل كطاقة خلاقة تسعى إلى كتابة المعنى في مواجهة العدم.
ويمكن القول إن النص يقدّم نموذجًا فريدًا لتحويل الرهاب من مفهوم نفسي محدود إلى علامة ثقافية شاملة. فهو يُفكك الثنائيات (الخوف/الأمان، الغياب/الحضور، الرغبة/المنع)، ويعيد تركيبها في بنية شعرية - فلسفية متداخلة، قائمة على التداخل النصي والانفتاح التأويلي. وبهذا يصبح النص مشروعًا جماليًا - أنطولوجيًا، يبرهن أن الشعر قادر على تحويل القلق إلى أثر فني يظل حيًا وقابلاً للتأويل المستمر.
هوامش
1. باب إيل / أوروك / نمرود: رموز أسطورية ورافدينية : باب إيل (إله سومري)، أوروك (مدينة سومرية كبرى)، نمرود (ملك مذكور في الأساطير والكتب المقدسة).
2. دازاين: مصطلح فلسفي وجودي عند هايدغر، يعني "الكينونة هناك".
3. سافاستيكا: الرمز القديم (الصليب المعقوف) قبل دلالته النازية، يُستحضر رمزًا للالتباس الهوياتي.
4. هاروت: اسم أسطوري/قرآني يرمز إلى السقوط والمعرفة المحرمة.
5. أكشوبيا الذهبية: رمز تبتي يرتبط بالتحولات الروحية.
6. المانوليا: زهرة/شجرة تحمل دلالة رمزية على العناد والبقاء وسط العواصف.
7. الخرتيت: رمز سريالي/ عبثي للغربة والعبث، استُخدم في الأدب والفن الحديث.
نشير لرواية الخرتيت" للكاتب أوجين يونسكو، وهي عمل مسرحي يرمز إلى استشراء الأيديولوجية الشاملة والتحول الجماعي إلى اللاإنسانية.
8. السنديانة: شجرة متجذّرة ترمز إلى القوة والصمود.
9. المَرْلينة: نبات بحري يُستحضر رمزيًا للدلالة على الهشاشة.
10. سانتياغو: بطل همنغواي في رواية "الشيخ والبحر" ، رمز الكفاح ضد المصير.
11. الطواسين: كتاب الحلاج، يرمز إلى التجربة الروحية/ الصوفية القصوى.
١*كلوستروفوبيا،رهاب الأماكن المغلقة والاحتجاز.
٢*أكلوفوبيا،رهاب الظلمة.
٣*اوتوماتونوفوبيا ،الخوف من الصور والتمثيل التي تشبه البشر.
٤*أتي فوبيا الخوف من الأماكن الأثرية والبنايات القديمة.
٥*فيلوفوبيا، رهاب الحب.
٦*أنثروفوبيا، رهاب البشر.