الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاومة سلمية

سعد العبيدي
2025 / 9 / 5

تعود في كل موسم انتخابي بالعراق موجة الجدل ذاتها بين الغالبية غير المنتمية حزبيًا، حيث ينقسم الرأي العام حول جدوى المشاركة في العملية الانتخابية بين اتجاهين متناقضين: المقاطعة من جهة والمشاركة من جهة أخرى. هذا الانقسام غير الجديد نتيجة طبيعية لتجارب مريرة خلفتها الانتخابات السابقة، يعكس في عمقه أزمة ثقة بالنظام السياسي من جهة، وحاجة ملحة إلى مسار إصلاحي من جهة أخرى.
يرى أنصار المقاطعة أن الابتعاد عن صناديق الاقتراع هو الموقف الصحيح لإسقاط نظام تغلغلت فيه الأحزاب النافذة واستشرى فيه الفساد، وأن المشاركة بأي قدر ستزيد من هيمنة هذه القوى، خاصة مع تحكمها بآليات الانتخابات والتزوير، ما يجعل فرص صعود المستقلين أو تقاسم السلطة شبه معدومة. في المقابل، يرى دعاة المشاركة أن الانتخابات، مهما كانت عيوبها، تظل فرصة – وإن كانت محدودة – لإحداث تغيير تدريجي وفتح مسار إصلاحي على المدى البعيد.
وتتمحور الإشكالية هنا في سؤال جوهري: هل تشكّل المقاطعة وسيلة ضغط فعالة للتغيير، أم أنها عمليًا تترك الساحة فارغة أمام الأحزاب المهيمنة لتكرّس سيطرتها أكثر فأكثر؟ والإجابة عن هذا السؤال تستدعي العودة إلى حجج الطرفين. فالمقاطعون يعتقدون أن العملية السياسية مختلة في جذورها، قائمة على المحاصصة الطائفية والحزبية، وأن أي مشاركة تعني إضفاء شرعية على نظام فاسد. أما دعاة المشاركة فيشيرون إلى أن القوانين العراقية لا تشترط نسبة محددة لاعتبار الانتخابات ناجحة، ما يعني أن المقاطعة لا تُبطل العملية الانتخابية ولا توقفها، بل تمنح القوى النافذة فرصة أكبر للاحتكار وتشريع القوانين التي تخدم مصالحها.
ومن هنا يخلص أنصار المشاركة إلى أن التصويت لصالح المستقلين الحقيقيين، والشباب الواعي، والمرشحين المدنيين غير الطائفيين، يمكن أن يشكّل نواة لإصلاح مستقبلي. وهم يستندون في ذلك إلى شواهد تاريخية عراقية تثبت أن المقاطعة كثيرًا ما أفرغت الساحة لصالح القوى المهيمنة بدل أن تحدّ من نفوذها، كما حدث مع مقاطعة الحوزة الشيعية عام 1921، ومقاطعة بعض القوى السنية عام 2003، حيث جاءت النتائج عكس ما كان يطمح إليه المقاطعون.
وبتحليل الاتجاهين بموضوعية، يتبين أن ترجيح كفة المشاركة أكثر واقعية، لأنها تقلّص تدريجيًا من نفوذ الأحزاب التقليدية عبر إدخال وجوه جديدة مستقلة أو مدنية حتى وإن لم تكن ناضجة تماما. كما أن الإصلاح في ظل منظومة مترسخة لا يمكن أن يكون قفزة مفاجئة، بل عملية تراكمية تبدأ من صناديق الاقتراع وتتوسع مع مرور الوقت. وتجارب دول عديدة خرجت من أنظمة استبدادية أو فاسدة تؤكد أن التغيير لم يأتِ دفعة واحدة، بل عبر مسار طويل دعمته المشاركة السياسية الواعية.
وتزداد قوة هذا الخيار مع تنامي وعي الشباب الذين يشكلون الشريحة الأكبر في المجتمع، ويملكون أدوات التواصل والتنظيم والتأثير، ما يمنح القوى المستقلة والأحزاب المدنية قاعدة دعم متصاعدة. وحين تتلاقى جهود هؤلاء الشباب مع الأكاديميين والنخب الفكرية القادرة على صياغة برامج واقعية بديلة، يمكن للعملية الانتخابية أن تتحول مستقبلا من إجراء شكلي إلى أداة فعلية للتغيير وصناعة بدائل سياسية جديدة.
وعليه، فإن المقاطعة، مهما حملت من رمزية احتجاجية، تبقى عمليًا خيارًا يخدم القوى النافذة لأنها تبقي العراق أسيرًا لفسادها وهيمنتها. أما المشاركة، وإن بدت محدودة الأثر في بداياتها، فهي المدخل الواقعي لفتح أفق الإصلاح التدريجي وتوسيع مساحة حضور الشباب والمستقلين. وخلاصة القول: إن صناديق الاقتراع، إذا أُحسن استثمارها، يمكن أن تتحول إلى أداة مقاومة سلمية تنقذ العراق من سلطة الهدم والتخريب وتفتح الطريق نحو مستقبل أفضل.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي