|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

فاطمة الفلاحي
2025 / 9 / 2
مدخل
هذا النصّ ليس مجرّد بوحٍ عاطفي؛ إنّه أطلسُ غيابٍ مُحكم الصنعة، يَجمع بين نَفَس الهايبون التأمّلي ومرثيّةٍ شخصيّة تُحاكم أخلاقَ العلاقة وبلاغةَ الرسالة. تكتب فاطمة الفلاحي وجعًا يتشكّلُ على الصفحة طقسًا: شمعةٌ تكشف، لا تُنقذ؛ معبدٌ يَقصي القصائد خارجَه؛ رسائلُ تُمزَّق قبل أن تولد. هنا قراءةٌ مُتأنية تُلامس البنية والأسلوب والرموز والدلالة والنفس والجوهر الفلسفي والجندري والسمعي، مع اقتراحات تحريرٍ ونشر.
⸻
أولًا: النوع الأدبي ومعايير الهايبون
• هايبون: نثرٌ اعترافيّ قصير تليه ومضات/هايكو تغلق الدائرة الدلاليّة. الفلاحي تلتزم الرُّوح لا القالب: نثرٌ يقيمُ حجّته على التأمّل والصورة، ثم ثلاث قفلات مكثّفة («اكتبني… صلوات»، «الغياب لا عذر له… خطيئة، رسائله لن تُقرأ»).
• التفوّق هنا في تبادل الوظائف: النثر يَمدُّ السرد ويُعرّي الجرح؛ الومضة تقصُّ الزائد، تُحوِّل التجربة إلى حُكمٍ وجوديّ.
⸻
ثانيًا: هندسة الصوت والسرد (بناء المخاطَب)
• ضمير المتكلّم/الأنا أمام «أنت» غائبٍ حاضرٍ بوصفه جرحًا أكثر من كونه شخصًا.
• «كنتُ أكتب روحك» ↔ «الآن أنصت لاحتشاد الوجع» انتقالٌ من التماهي إلى المُسافة؛ من عبادة الآخر إلى معرفة الذات.
• المخاطَب يتشظّى إلى ثلاثة: حبيب مفترض، قارئ كوني، وإله كتابي تُستعار له مفردات الطقس (معبد، منسك، صلوات).
⸻
ثالثًا: الزمن والفضاء (دراما التحوّل)
• محوران زمانيّان واضحان: سابقًا/الآن. الفارق ليس تاريخ العلاقة، بل وعي الساردة بذاتها.
• الفضاءات حدّيّة/عتبات: «ناصية الوجد»، «أرصفة الهوى»، «معبد الذاكرة». إنها نقاط تماسّ بين الخاصّ والعامّ، بين السرّ والعلن، بين المقدّس والدنيوي.
• القرارات الدلالية تُصاغ عند الحدود: على الناصية تُطلَب الكتابة «صلوات»، وعلى الرصيف يُنثَر بياض الروح.
⸻
رابعًا: معجم الصور والرموز (بنية العلامات)
1. المعبد/المنسك: الكتابة حجّ داخلي؛ تُلقي الشاعرة القصائد «خارج المعبد» لتؤسّس لطقس تطهيرٍ معكوس: الخلاص عبر الإقصاء.
2. الشمعة: ضوءٌ فاضح؛ «أُشعل شمعة وعلى ضوئها أرى احتراقاتي»—معرفة مؤلمة، لا تخديرًا للعتمة.
3. سلّة المهملات: انقلاب القيمة؛ ما يُرمى يصبح وثيقة وجود حين يُنثَر على «أرصفة الهوى».
4. البياض: «بياض روحي»—براءةٌ مهدورة، تلتقي بالفتنة فتفقد حصانتها، لكنها تحتفظ بشهاديتها.
5. الرسالة الممزَّقة: سيمياء تواصلٍ ميت؛ معنى قُتِل قبل تخلّقه. سؤال «كم رسالة…؟» ليس طلب جواب بل تثبيتٌ لجرحٍ متكرّر.
⸻
خامسًا: البلاغة الصوتية والإيقاع
• تجاور الصوامت المهموسة (س/ص/ش) مع الممدودات يخلق حفيفًا يشبه ليل الورق: «أكتبك قصة من سطر واحد… قصيدة تتّسع بالعتمة».
• الإيقاع التركيبي: جُمَلٌ قصيرة تحفّ الومضات، وأخرى متموّجة تُراكم صور الاعتراف.
• علامات الوقف والرمز «~» تُؤطّر الومضة كقفلةٍ تشبه الجرس: إعلان انتقالٍ من السرد إلى الحكمة.
⸻
سادسًا: الميتا–كتابة (الرسالة كموضوع وكمحاكمة)
• النص يتفكّر فعل المراسلة: لِمَن نكتب إذا كان الغياب «خطيئة» ورسائله «لا تُقرأ»؟
• يتحوّل الخطاب من وساطةٍ إلى معموديّة حضور: «اكتبني على ناصية الوجد، صلوات!»—طلب تثبيتٍ وجودي: ليبقَ اسمي مكتوبًا ولو غاب المرسَل إليه.
• هكذا تُستعاد السيادة: الكتابة وطنٌ بديل عن علاقةٍ لا تُلفظ اسمها.
⸻
سابعًا: البعد النفسي (من التعلّق إلى التملّك)
• آليّات التكيّف مع الفقد: تشييء الألم (الشمعة/الرسالة)، مسرحة الهدر (نثر المهملات)، سؤالٌ استنكاري يفرغ الاحتقان.
• الانتقال من الاعتماد الشعوري إلى تركيز الذات: الإصغاء لاحتشاد الوجع ليس استسلامًا، بل تحويلٌ للجرح إلى معرفة قابلة للتسمية—ومن التسمية تبدأ النجاة.
⸻
ثامنًا: منظور جندري (صوتٌ نسويّ يواجه المحو)
• تستعيد الساردة حقّ المعنى في علاقةٍ يمارس فيها الغياب عنفًا رمزيًا (تمزيق الرسائل).
• لا تتسوّل اعترافًا، بل تُصدر حكمًا أخلاقيًا: «الغياب لا عذر له… خطيئة». هذا قلبٌ لمعادلة طالما أُثقلت بها الكتابة النسوية: من انتظارٍ مُضنٍ إلى مساءلةٍ صارمة.
⸻
تاسعًا: الفلسفة الكامنة (أخلاق الغياب وميتافيزيقا الحضور)
• الغياب ليس ظرفًا «تواصليًا»، بل موقفٌ أخلاقي يُحاسَب: الرسالة التي لا تُقرأ جنايةُ محوٍ للآخر.
• في المقابل، الحضور ليس استجابة الحبيب، بل اعتراف الذات بذاتها عبر الكتابة: أن تُكتب يعني أن تُرى، ولو على ضوء شمعة.
⸻
عاشرًا: الومضات الختامية — قراءة دقيقة
1. «اكتبني ~ على ناصية الوجد، صلوات!»
الأمر الشعري يزاوج العبادي بالعاطفي. ليس توسّلًا، بل تكليفٌ بالاعتراف: اكتُبني لأبقى.
2. «الغياب لا عذر له ~ عند العاشقين فهو خطيئة، رسائله لن تُقرأ!»
قطيعةٌ مع تبرير الغياب؛ رفعُ الدعوى وانتهاءُ المرافعة في جملةٍ واحدة: لا علاقة بلا قراءة.
⸻
حادي عشر: في سياق الهايبون (خصوصيّة عربية)
• يجاور النص روح الهايبون (تأمّل/ومضة) لكنه يؤعرِبُه: الطبيعة تُستبدَل بذاكرةٍ ومدينةٍ ورصيفٍ؛ الطقس الياباني يتحوّل إلى نُسْكٍ لغويّ عربي يتغذّى على المعجم الديني وبلاغة الوجد.
⸻
ثاني عشر: الأسلوب والاقتصاد اللغوي
• كثافةٌ بلا تعقيد، وصورٌ جليّة بلا ابتذال. الاقتصاد في الومضات يقابله ثراءٌ استعاريّ في النثر؛ هذا التوازن يمنح النص قابلية التداول الصحفي والاقتباس الثقافي معًا.
⸻
ثالث عشر: اقتراحات تحريرٍ دقيقة (اختياريّة)
• ضبطٌ طفيف: «طوّحتُ بسَلّة مهملاتك» (تشديد الواو) لسلامة الإيقاع.
• يمكن إبراز الومضات بصريًا (مسافة/ميّزات طباعية) لتأكيد انتقال النَّفَس من السرد إلى الحكم.
• إن رغبتِ بإضافة ومضةٍ رابعة خاتمة، يُقترح وصلُ «الشمعة/الرسالة/البياض» بحكمةٍ موجزة (سطر واحد).
⸻
رابع عشر: قابلية الترجمة والعَبْر-وسائط
• الصور قابلة للنقل (Candle/Unread Letters/White Soul)، ما يتيح ترجمات رشيقة.
• بصريًا: يصلح الهايبون لتجسيدٍ فوتوغرافي (شمعة/أرصفة/أوراق ممزّقة) أو فيديو-قصير يُوازي الانتقال من النثر إلى الومضة بقطعة موسيقيّة خافتة.
⸻
خاتمة
«رسائلٌ منسيّة» تُعيد ترتيب علاقةٍ مختلّة بين العاشقِ واللغةِ والغياب. لا تكتفي فاطمة الفلاحي بالشكوى؛ تُقيم محكمةَ معنى: الغياب خطيئة، والرسالة التي لا تُقرأ قبرٌ صغير، غير أنّ الكتابة تُنقذ صاحبها من الفناء. هايبون مُحكم، مُقتصد، عالي الفاعلية التأثيريّة، يُسلِّم القارئ إلى حكمةٍ أخيرة:
نكتبُ لا لأنّ الآخر يقرأ، بل لأنّ أرواحنا تحتاج أن تُرى.
—-
هايبون – رسائل منسية
هل تعلم حين أكتب إليك؛ تقدحني ومضات متسارعة أراك فيها كوجع؛ فأكتبك قصة من سطر واحد، وأحيانا أكتب تفاصيل لقائك بها، كقصيدة تتسع بالعتمة، وألقيها خارج معبد الذاكرة.
لكن،كنت سابقًا، أكتب روحك قبل أن تعشق غيري كمنسك تحج إليه الكلمات.
الآن عندما أكتب إليك؛ أنصت لاحتشاد الوجع في داخلي.
دعني أشعل شمعة؛ وعلى ضوئها أرى احتراقاتي.
فقد طوحتُ بسلة مهملاتك على أرصفة الهوى؛ فتناثر بياضَ روحي على ناصية الفتنة. فكم رسالة مني مزقتها قبل أن تقرأها ...؟
اكتبني ~
على ناصية الوجد،
صلوات!
الغياب لا عذر له ~
عند العاشقين فهو خطيئة،
رسائله لن تقرأ!