عندما يرفع القبو

سعد العبيدي
2025 / 8 / 31

في العراق، تُعاد المسرحية كل أربع سنوات. تُنصب خيام الدعاية كما تُنصب السرادق في مآتم متكررة، تُصاغ الشعارات كما تُصاغ الأكاذيب في مصانع الأوهام، تُشحذ الهمم لأغراض الغنيمة، وتُنهب خزائن الدولة بيدٍ ممدودة ووجهٍ مطلي بالابتسامات. فجأة يتوقف الحياء عن أداء وظيفته، ويُطوى العيب في جيب السترة الرسمية. يتصالح الأعداء كما لو أن الدم لم يُسفك بالأمس، ويتخاصم الأخوة كأن بينهم ثارات منذ واقعة الطف، ويعود الاجتثاث أداة إزاحة مثل شبح يعرف طريقه جيدًا في الظلام، يتعاظم الكذب حتى يصبح الدستور غير المكتوب للسياسة، وتُطلق وعود التوظيف والكهرباء والرفاه كالألعاب النارية: لحظة بريق مبهر ثم رماد. تُقام الولائم تحت عناوين الثواب، وتُحلل المحرّمات باسم المصلحة والدين، وتُعاد كيّ البدل العسكرية ليتباهى أصحابها بالتهديد والتشريع تحت فوهة البندقية. ثم تنفلت ألسنة لتوزع الشتائم بلا حساب، وتبتكر المصطلحات الغوغائية كما لو كانت علامة تجارية مسجَّلة للحملات الانتخابية. أما التهديد بامتلاك الدولة وجرّ الدماء "حتى الخشم" فقد صار لازمة انتخابية لا يكتمل العرض بدونها.
لكن الحقيقة أبسط وأمرّ: ما هذه الجلبة إلا روائح عفنٍ مخزونة في "سبتتنگ" الوعي الجمعي، مغطاة بذلك الغطاء الذي يسمى "القبغ". وما أن يقترب موسم الانتخابات حتى يُرفع بقدرة قادر لتتسرب الروائح الكريهة التي ظلت حبيسة. إنها دورة حياة لنوع من العفن السياسي، تذكرنا بأصلها الذي يعود إلى نوري السعيد، حين شبّه نفسه ذات يوم بالقبغ؛ قال إن خصومه إذا أزاحوه، فلن يطلقوا سراح الحرية كما يتوهمون، بل سيحررون روائح العفن المتراكمة في السبتتنگ. كان يراها سخريةً تحمي حكمه، لكنها صارت لعنةً تتكرر في تاريخنا السياسي؛ فما أكثر من رفعوا القبغ وما أقلّ من نظّفوا ما تحته.
تلك الروائح لم تعد حكرًا على سياسيي الزمن الحالي الذين امتلأت صدورهم وخزائن وعيهم بالنتن، بل امتدت عدواها إلى كثير من أبناء الشعب. باتوا يرفعون هم أيضًا قبغهم الخاص، يتفاعلون مع روائح السياسة كأنها بخور مقدّس، يتنشقونها بإخلاص، ثم يعيدون إنتاجها تفاهةً وذلًا، ويقفون على الأسوار يهتفون "هيهات منا الذلة"، وكأنهم شركاء في صناعة العفن لا ضحايا له.
هكذا تحولت الانتخابات عندنا من وسيلة لبناء الدولة إلى آلة لتدوير الروائح، ذراع لرفع القبغ، مناسبة دورية لتنفيس الغازات الراكدة في هواء الوطن. وما رفعه كل أربع سنوات إلا جرس إنذار متكرر، يذكّرنا بأن الجرح لم يندمل، وأن العفن يواصل تكاثره في قيعان وعينا. وإن لم نفتح باب إصلاح ذواتنا أولًا، ونكسر دورة التفاعل مع تلك الروائح النتنة، فسندور في الدوامة نفسها إلى أن نصبح نحن جزءًا من تلك الرائحة. والأسوأ أننا قد نصل يومًا لا نعود نفرّق فيه بين عبق الحرية ورائحة العفن، من فرط ما ألفنا التنفس في جوٍّ خانق.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي