هايبون قطار الماضي مع قراءة نقدية للأستاذ الناقد قاسم عزام

فاطمة الفلاحي
2025 / 8 / 15

في قطار الساعة التاسعة مساءً؛ وكما التقيته على سفح نجوى خربشاته على تذكرتي في ذات القطار… قررت أن أتحرر من طعم الخيبات والخسارات التي ما زالت أناتها ثابتة في حنجرتي.
أركنت رأسي على زجاج النافذة؛ بانتظار صعود الراكب الأخير، ومفتش التذاكر.
وأنا أبحث عن التذكرة عثرت على رسالته الصفراء التي انتهكت كل شيء.
فتحتها بنية قراءتها للمرة الأخيرة، وتمزيقها ورميها من نافذة القطار
قال لي فيها:
أنت امرأة تقترب مني؛ وأراها أبعد من كينونة الألم الزائدة في رسائل القلب المستعجلة. وأنا لم أكن رجلًا موفقًا في حياتي؛ لذا رغبت أن أكون موفقًا في موتي...
وأرصفة هذا العالم لا تعبأ بنداءات صوتي الأبح. وأنت امرأة غادرت ظلها وأنا ما زلت متخمًا برائحة امرأة عابرة...
فلماذا تركتِ زوابعي تثأر مني؟
بارع حتى في خيانة المشاعر؛ وهو ما زال يعيش بكنفها.
أحيانًا يتراءى لي؛ تقافز صور الخيانة في مخيلتي، كجداجد ليل.
سرعان ما يختفي بعضها، ويعلق بعضها الذي يشبه وجعي، ككوابيس تأبى النزوح عن صدري.
كنت أأمل أن عاقبة هذا الليل ستكون خيرًا؛ فجمرة الخيانة بروحي لم تنطفئ بعد.
ها أنذا أشمها بين ثنايا الكلمات وصوت القطارات
ورائحة أصابعه تفوح منها الكلمات.

---
يداه مبللة بذنوب الأمس ~
وقلبه يركض،
بأمتعة الرحيل!

---
أناشدك الرحيل ~
فكلي كوهمٍ،
على وشْك الانتحار!



قراءة نقدية: "هايبون - قطار الماضي" لفاطمة الفلاحي

* أولًا: تحليل سردي للنص

في هذا النص الموجز والعميق، تعتمد فاطمة الفلاحي على تقنية الهايبون، وهو نوع أدبي يدمج بين السرد النثري وومضات شعرية (غالبًا بأسلوب "الهايكو"). يتخذ السرد شكل تأمل داخلي في لحظة عبور – حرفيًا ومجازيًا – داخل قطار الليل، الذي يتحول إلى رمز للزمن والماضي والخيبة.
الشخصية الساردة في النص ليست مجرد راكبة في قطار، بل هي كائن وجودي يتصارع مع الذكرى، الخيانة، والخذلان، وهي تفتح رسالة قديمة، في لحظة محورية من الرغبة في التحرر، لكنها تجد في الكلمات القديمة جراحًا لم تندمل.
السرد لا يتقيد بخطية زمنية، بل يقفز بين استرجاعات وتداعيات داخلية، كما هو مألوف في الأدب النفسي. ننتقل من القطار إلى الرسالة، إلى الذكرى، إلى الندم، فإلى الإلحاح على الرحيل... ذلك الرحيل الذي قد لا يكون مجرد حركة جسدية، بل انفصالًا داخليًا عن الألم ذاته.

* ثانيًا: تعليق أدبي ولغوي

لغة فاطمة الفلاحي تمتاز بـالشاعرية العالية والاقتصاد التعبيري. لا توجد كلمة زائدة، بل كل عبارة مختزلة، مكثفة، مشحونة بالدلالة. الجمل تنساب في نغمة حزينة، شجية، تجمع بين الرقة والمرارة:
"أركنت رأسي على زجاج النافذة..." — جملة تعكس انتظارًا وخواءً داخليًا.
"رسالة صفراء انتهكت كل شيء" — صورة قوية، توحي بأن الكلمات يمكنها أن تكون عنيفة، مدمّرة.
"أمتعة الرحيل" و"أناشدك الرحيل" — توظيف بارع للرحيل كمجاز وجودي للخلاص والانفصال.
المفارقة العاطفية حاضرة بقوة: الرجل الذي يعلن فشله في الحب والحياة، ينجح فقط في "الموت"، وهذا يعكس تشظيًا عاطفيًا مروعًا، حيث تبدو الخيانة ليست فقط فعلاً، بل قدَرًا يعادُ اجتراره.
الهايكو الختامي:
يداه مبللة بذنوب الأمس-
وقلبه يركض
بأمتعة الرحيل
هذه القطعة تقدم وحدةً شعرية مستقلة، تختصر مأساة النص كله. فالذنب، الماضي، الرحيل، والتعجل في الانفصال، كلها تلتقي في صورة مدهشة. استخدام الفعل "يركض" مع "قلبه" يضفي توترًا داخليًا متصاعدًا.
* ثالثًا: تلخيص تعبيري انطباعي
"قطار الماضي" ليس مجرد نص؛ بل مرآة داخلية لحالة إنسانية مأزومة، تائهة بين الحب والخذلان، وبين الرغبة في النسيان والاستمرار في العيش داخل الذكرى. وهو كذلك تجسيد شعري لمعاناة أنثوية صادقة، ترفض أن تُغلف مشاعرها بأقنعة الزيف، وتكتبها بصدق موجِع ومكاشفة عارية.
كقارئ، تخرج من هذا النص وأنت تشعر بأنك قد دخلت إلى أعماق امرأة تواجه أشباحها وجهاً لوجه، على مقعد في قطار يعبر الليل. الليل هنا ليس فقط زمناً بل فضاءً شعورياً كثيفًا، يحاصرها بين ما كانت تأمل فيه، وما وجدت نفسها فيه.
* رابعًا: إشادة بالأديبة فاطمة الفلاحي
تستحق الأديبة فاطمة الفلاحي إشادة كبيرة على هذا النص الذي يُعدّ درسًا في الاقتصاد اللغوي، والدقة الشعورية، والبناء الرمزي المتقن. لقد نجحت ببراعة مذهلة في الرسم بالكلمات، حتى بدا النص وكأنه لوحة تشكيلية تنبض بالحس الوجودي، والصراع الفلسفي، والحزن الجمالي.
من خلال موهبتها الأدبية المتألقة، نقلت الكاتبة تجربة إنسانية معقدة في مساحة نصية قصيرة، دون أن تُخلّ بالعمق أو التأثير. استطاعت أن تقارب موضوع الخيانة والانفصال ليس من بعد عاطفي سطحي، بل من زاوية وجودية وفلسفية تتعلق بأسئلة الذات، والقدر، والمصير.

* خاتمة

"هايبون - قطار الماضي" هو نص أدبي نابض بالحياة والموت معًا، يعكس تمكّن الكاتبة فاطمة الفلاحي من أدواتها، ووعيها العميق بقدرة الكلمة على تحويل الألم إلى فن، والخسارة إلى أثرٍ لا يُنسى.
إنها كتابة لا "تنتهك" شيئًا، بل تعيد خلق كل شيء من رماد الذكرى — وهذا هو الإبداع الحق.

"قطار الماضي"... حين تكتب فاطمة الفلاحي بالدمع والرماد
في عتمة قطار الليل، حيث يتقاطع الزمن بالوجدان، تسير الأديبة فاطمة الفلاحي بخُطا لغوية رشيقة نحو ذاكرة مبللة بالخذلان، حاملةً في يدها هايبونًا لا يُقرأ فقط، بل يُعاش ببطء، كما تُعاش الجراح القديمة في لحظات المكاشفة الأخيرة.
نحن أمام نص أدبي يحمل عنوان "قطار الماضي"، لكنه في جوهره أكثر من مجرد رحلة، إنه وقفة حادة أمام مرآة الذات، حين تنفلت الذكريات كالعاصفة، ويتحول الحنين إلى سكين.
تشكيل سردي مكثف: عندما يصبح القطار صورة للزمن الموجِع
يعتمد هذا العمل على تقنية الهايبون، وهي فن ياباني الأصل يمزج بين السرد التأملي وومضات من الشعر (غالبًا بشكل هايكو). غير أن فاطمة الفلاحي لا تستعير هذا الشكل فحسب، بل تُعيد تشكيله وفق رؤيتها الخاصة، فتنسج سردًا داخليًا ينفصل عن الزمن الخطي، ويغوص في أعماق الذات الجريحة.
الشخصية الساردة هنا ليست مجرد امرأة في قطار، بل كيان وجودي عالق بين ذاكرة خائبة ورسالة قديمة تعيد كل شيء إلى الواجهة. الرسالة لا تبوح فقط، بل "تنتهك"، تفتح جرحًا لم يندمل، وتستحضر رجلًا لم ينجح في الحب، لكنه نجح في الموت — يا للمفارقة!
القطار، بهذا المعنى، ليس مجرد وسيلة عبور، بل استعارة لحركة النفس في محطاتها المتأرجحة بين الأمل والانطفاء، بين المضي قدمًا والتشبث بالألم.
جماليات اللغة: اقتصاد تعبيري وثراء دلالي
ما يلفت في نص الفلاحي، إلى جانب محتواه الوجودي، هو لغته: لغة مفعمة بالشاعرية، مشبعة بالتكثيف، لا تعرف الحشو، ولا ترضى بالسطحية. فكل عبارة مشحونة بحمولة شعورية كثيفة:
"أركنت رأسي على زجاج النافذة..."
جملة تهمس بالحزن، تعكس فراغًا داخليًا لا يُملأ.
"رسالة صفراء انتهكت كل شيء"
عبارة تنقل العنف الرمزي للكلمات، عندما تُستخدم كسلاح في لحظة خيانة.
"أناشدك الرحيل"
توسُّل يتجاوز المعنى الحرفي، ويكشف رغبة دفينة في الخلاص من عذابات الذات.
الفلاحي تمزج ببراعة بين النعومة الأنثوية والحدة الفكرية، لتخرج نصًا يجمع بين الألم والجمال، بين الصدق الفادح والتعبير الرهيف.
الهايكو الختامي: قلبٌ يركض، ويدٌ مبللة بالندم
ينتهي النص بهايكو شاعري موجز، لكنه عميق التأثير:
يداه مبللة بذنوب الأمس –
وقلبه يركض
بأمتعة الرحيل
هنا، تكتمل الدائرة. الرحيل ليس فقط لحظة قرار، بل شعور ينهك القلب، وماضٍ لا يمكن الفكاك منه. كلمة "يركض" تنقل عجزًا داخليًا، وتعجلًا في الانفصال، وكأن البقاء صار مستحيلاً.
فاطمة الفلاحي: ريادة أنثوية في الكتابة الوجودية
من خلال "قطار الماضي"، تؤكد فاطمة الفلاحي مكانتها كصوت أدبي متميز، يمتلك القدرة على التعبير عن أكثر التجارب تعقيدًا بأقل عدد من الكلمات، دون أن تفقد النصوص عمقها أو جاذبيتها.
إنها كاتبة لا تستعير الألم من الآخرين، بل تنسجه من لُبّ تجربتها، لتعيد تقديمه بلغة تتراوح بين الحكمة والوجع، وبين التساؤل والمكاشفة.
في زمن تتسابق فيه الكلمات على إثارة الضجيج، تُجيد الفلاحي فن الصمت الناطق. فن تحفر فيه المعاني من بين السطور، وتُعيد خلق الواقع لا بنقله، بل بتجاوزه نحو جوهره الخفي.
* خاتمة: الفن حين يُصبح خلاصًا
"قطار الماضي" ليس نصًا يُقرأ ويُنسى، بل تجربة تُعاش وتُستعاد. هو شهادة أدبية على أن الفن يمكن أن يكون طريق نجاة، وأن الكتابة ليست مجرد فعل جمالي، بل طقس وجودي يُعيد ترتيب الألم، لا ليخفيه، بل ليمنحه ملامح جديدة.
وها هي فاطمة الفلاحي تثبت مجددًا أن الكلمة الصادقة، حين تُصاغ بموهبة ناضجة، يمكنها أن تُوقظ القلب، وتُحرّك فينا ما نظن أنه اندثر... أو رُبما، ما لم يُولد بعد.
-----
#فاطمة_الفلاحي

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي