سوريا بين فكّي الشرع والفوضى: من مجازر السويداء إلى هشاشة الدولة

أزاد خليل
2025 / 8 / 2

بين ليلة وضحاها، استفاقت محافظة السويداء على مشهد كارثي يعيد للأذهان فصولاً دامية من الحرب الأهلية السورية. مئات من أبنائها سقطوا بين قتيل وجريح، فيما بلغ عدد الضحايا من المدنيين ما لا يقل عن 1400 درزي، إومئات المفقودين اضافة إلى مئات من عناصر الفصائل المسلحة التابعة لحكومة أحمد الشرع، التي تلطّخت أيديها ليس فقط بالدماء، بل بفقدان البوصلة الأخلاقية والسياسية.

الهجوم الذي طال المحافظة لم يكن مجرد رد فعل على تمرد محلي أو احتجاج سياسي، بل كان عملاً انتقامياً وحشياً استهدف مدينة بأكملها، باستخدام أدوات الدولة ذاتها: أجهزة الأمن، الفصائل المسلحة، والدعاية الإعلامية التي جرّمت كل من تجرأ على المطالبة بحق أو مساءلة سلطة.

لكن ما أوقف هذا الهجوم لم يكن حكمة القيادة أو ضغطاً شعبياً، بل الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مقرات أمنية وعسكرية في دمشق، بينها مبنى هيئة الأركان، مما أجبر السلطة على وقف هجومها مؤقتاً وإعادة حساباتها. هذا التدخل الخارجي، بقدر ما هو مدان في السيادة، يكشف هشاشة الداخل السوري وتآكل الدولة التي باتت لا تردعها إلا قوة خارجية.

انكشاف زيف الشعارات

حكومة أحمد الشرع، التي جاءت تحت لافتة “الانتقال السياسي” و”تمثيل جميع المكونات”، فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أبسط وعودها. بل على العكس، استنسخت أساليب النظام السابق في القمع، التخوين، وإدارة التنوع السوري بالقوة لا بالحوار.

منذ تسلمه زمام السلطة، كانت بوصلته تتجه نحو عسكرة المجتمع، وتحويل الدولة إلى جهاز أمني ضخم لا يرى في المواطن سوى مشتبهاً أو تابعاً. وهو ما اتضح في حادثة السويداء، حين اختلطت الجغرافيا بالمذهب، وتحولت المدينة إلى هدف قابل للإبادة الجماعية لمجرد أنها رفضت الخضوع الأعمى.

الشعارات التي رفعتها الحكومة الجديدة حول “وحدة الأراضي السورية” و”محاربة التطرف” سرعان ما تحوّلت إلى غطاء لسياسة إقصائية، تُقصي كل من لا يدور في فلكها، سواء من أبناء جبل العرب أو من مكونات أخرى كالعلويين والكرد والمسيحيين. الخطاب الذي كان يُفترض به أن يكون جامعاً، بات أداة تقسيم وشرذمة.

دروس من الشرق السوري

على النقيض، تقدّم تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا مثالاً يستحق التأمل، رغم كل ما يحيط بها من تحديات وملاحظات. فقد نجح الكرد ومعهم المكونات الأخرى من عرب وسريان وآشوريين في بناء نموذج حكم محلي يرتكز على مبدأ اللامركزية، ويتيح مشاركة حقيقية للمواطنين في صنع القرار.

صحيح أن هذا النموذج ليس مثالياً، ويواجه ضغوطاً من عدة أطراف إقليمية ودولية، إلا أنه بالمقارنة مع ما يحصل في السويداء، أو في دمشق، يبدو أكثر استقراراً وأقل دموية. الأهم، أنه يمنح المجتمعات المحلية شعوراً بالشراكة والانتماء، وليس بالارتهان والخوف.

اللامركزية ليست تهديداً لوحدة سوريا، بل على العكس، قد تكون بوابتها الوحيدة نحو البقاء. فالدولة المركزية التي تقرر مصير المدن والناس من العاصمة، وتسحق كل صوت معارض، لم تعد قادرة على البقاء، لا قانونياً ولا عملياً. وكل من يتمسّك بها، إنما يتمسك بوهم لم يعد له مكان في الواقع.

اللا دولة… واقع نعيشه

ما نراه اليوم ليس صراعاً على السلطة فحسب، بل حالة متقدمة من اللا دولة. لم تعد هناك مرجعية قانونية يمكن اللجوء إليها، ولا مؤسسات محايدة يمكن الوثوق بها. السلطات الأمنية باتت تعيش في جزرها المنفصلة، ولكل جهاز نفوذه ومناطق سيطرته ومصالحه. الميليشيات باتت أقوى من الجيش، والخطاب الديني أو المناطقي بات أقوى من الدستور.

في هذا المشهد، تتحوّل سوريا إلى أرض تتقاسمها القوى لا القوانين، وتُدار فيها المدن بعقلية الثأر لا بعقلية الإدارة. وهذا ما يجعل حادثة السويداء، رغم دمويتها، ليست سوى عرض من أعراض الانهيار العام.

الثقة بين المواطن والدولة أصبحت شبه معدومة، وهذا ما نراه بوضوح في ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي. آلاف السوريين من مختلف المناطق عبّروا عن غضبهم وسخطهم مما حدث، ليس فقط تعاطفاً مع السويداء، بل لأنهم يعرفون أنهم قد يكونون الهدف التالي.

الاستقواء بالسلاح… نذير هلاك

ما تقوم به حكومة الشرع من استعراض للقوة واستخدام مفرط للسلاح، لن يزيدها إلا عزلة. فالسلاح لا يبني شرعية، ولا يخلق ولاءً، بل يزرع الخوف المؤقت والغضب الدائم. كل قذيفة سقطت على منزل في السويداء، وكل نقطة دم سالت هناك، ستتحول إلى بذرة كراهية ونقمة ستنمو مع الوقت.

السلطة التي تقتل شعبها لتبقى، هي سلطة بلا مستقبل. والتفرد بالحكم ليس مؤشراً على القوة، بل على العجز عن بناء توافق. من يريد أن يحكم سوريا، يجب أن يقدّم نفسه كضامن لكل السوريين، لا كجلاد لمعارضيه.

نحو عقد اجتماعي جديد

إذا أردنا الخروج من هذا النفق، فلا بد من مراجعة شاملة لطبيعة الدولة السورية. المطلوب ليس فقط تغيير الأشخاص، بل تغيير البنية السياسية بالكامل. نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، يؤمن بالتعددية، باللامركزية، وبالعدالة الانتقالية.

ما جرى في السويداء يجب أن يكون جرس إنذار، لا مجرد حدث عابر. وعلى جميع السوريين، من كل المكونات، أن يدركوا أن بقاء البلاد مرهون بإعادة بناء الثقة بينهم، وليس بالاصطفاف خلف سلطة تُقنّن القتل وتقونن القمع.

إن دولة لا تحمي أبناءها لا تستحق أن تحكمهم. وسوريا لن تُبنى لا بحكومة الشرع، ولا بغيره، ما لم يؤمن الجميع أن زمن الإخضاع انتهى، وأن زمن الشراكة بدأ

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي