|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 7 / 17
في العراق، لا يتحرك الزمن إلى الأمام، بل يلتف على جرحٍ مفتوح، كأن البلاد تدور في حلقة سكون عميق، زمن داخلي يتآكل فيه المعنى، وتضيع فيه البوصلة، وينظر فيه الإنسان إلى ذاته فلا يراها، أو يراها كما يرى المصدوم وجهه في زجاجٍ محطَّم: شظايا من هوية ممزقة بين ماضٍ ثقيل وحاضرٍ لا يشبه شيئًا.
في هذا السياق الممزق، تحوّل الخطأ إلى قاعدة نفسية تُنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. يُنتخب الظالم لأن الوعي اختار النسيان، ويستمر الفساد لأن الناس تعايشوا معه كضرورة، ويُمارس القتل كفعل اجتماعي مقدّس، وعادت فيه الأعراف العشائرية كآلية دفاعية جماعية أمام فشل الدولة وموت القانون. يتمسك بها الناس كما يتمسك الطفل بملهاة فم تحسسه بالشبع، وإن كانت خاوية. يغالون في تبرير السلوكيات المضادة للمدنية والتقدم، ويختارون الوهم لأنه – ببساطة – يريح النفوس المتعبة من عناء المواجهة والتفكير.
وفي هذا المناخ، أفرغت الشعائر الدينية من أبعادها التربوية والروحية، وتُضخّمت حتى أصبحت مظاهر جماعية للهروب من الذات لا لمواجهتها، تُستخدم لستر العيوب، لغسل الذنوب الرمزية دون إصلاح فعلي. ويُسلَّم على وفقها الدين إلى قبضة السياسة لتحويله إلى جهاز تسكين جماعي، لا ينهي الألم، بقدر ما يطيل أمده في صمت مريب.
في هذا المشهد القاتم، أُغتيلت الأسئلة الضرورية: عن الدولة، والعدالة، والمعنى، وتحول الخطاب الديني إلى أداءٍ مسرحي، والمقدس إلى منتج سياسي، والإيمان إلى تبعية تُشرعن الجهل وتعيد إنتاج العجز. إنه شكلٌ من "التديّن الانفعالي" – كما يُسميه علماء النفس – ينبع من حاجة عاطفية للأمان، حتى لو كانت كاذبة، يصبح فيها الكذب سلوكًا جماعيًا مقبولًا، يُمارَس كآلية دفاع نفسي تفضي الى سلسلة فيها القائد يكذب، العالم يكذب، رجل الدين يكذب، النائب يكذب، المواطن يكذب، وكأن الجميع يتنفس وهمًا مشتركًا، يوصله إلى ما يُعرف بـ"الإجهاد المعرفي الجمعي" – حالة من العجز الجماعي عن تقبّل الحقيقة، لأنها تهدد البناء النفسي والذهني الذي اعتاد عليه الناس.
عند هذه النقطة، لم يعد الحديث عن الفناء الجمعي في العراق مجازًا أدبيًا... إنه حقيقة نفسية تسير بثبات. وقد لا تحصل غدًا، لكنها، ووفق التحليل النفسي الفرويدي، ستقع لحظة يختار فيها الإنسان أن يقتل صوته، أن يعاقب نفسه طقوسيًا، أن يعبد الخرافة، ويسقط في دائرة العجز الإرادي – حين تنطفئ الإرادة أمام سطوة العادة.
فرويد كان يرى في التكرار القهري للخطأ تمثيل لا واعٍ لرغبة في الفناء أو التكفير. ويرى المفكر النفسي إريك فروم أن الأخطاء الصغيرة، حين تتكرر دون نقد، تصبح نوعًا من الانتحار البطيء الذي يتجلى في كل سلوك.
ومع هذا، هل من أمل؟
الأمل الوحيد من وجهة النظر النفسية، لا يكمن في تغيير السياسة أو النخبة أو الحزب. الأمل في أن تبدأ الأسئلة من جديد. أن يُستبدل الإنكار بالاعتراف، والوهم بالبصيرة، وأن تُفكّك الجماعة أوهامها وتواجه حقيقتها، بلا أقنعة، بلا تبريرات. كما ان التحول النافع لا يبدأ من قصر أو منبر، وإنما من داخل الفرد الذي يقرر – ولو بصمت – أن يرى، لا أن يعتقد، أن يدرك الحقيقة ليست عدوًا، والاعتراف بالخطأ ليس ضعفًا.
وختاما فإن الأمل في العراق لا يمكن أن يُصنع من شعارات الأحزاب، ولا من خطب الجوامع والحسينيات، يصنع فقط من إرادة فردية تكسر دائرة التكرار، وتعيد كتابة الحكاية بوعي جديد، لا بوهم قديم.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |