ڤرّنا... حيث تتكلّم الغابة بلغة الهدوء

سعد العبيدي
2025 / 7 / 13

لم أكن أعلم أن للهدوء صوتًا... حتى وصلت إلى قرية "ڤرّنا" الواقعة جنوب غرب العاصمة السويدية ستوكهولم، حيث يقيم صاحبي منذ سنوات. هناك، في أحضان الغابة، همسٌ دائم بين الأشجار والماء والريح... كأن الطبيعة قررت أن تصوغ الطمأنينة على هيئة قرية صغيرة، نشأت بين الأغصان لتختبئ من ضجيج العالم. المشي في طرقاتها أشبه بالرجوع الى الأصل، تحفّها أشجار تجاوزت أعمارها مئات السنين، كأنها تحرس السكينة. جسورها الخشبية تعانق ضفاف البحيرات، ومياهها تعكس وجوه العابرين وما تخفيه دواخلهم.
في ڤرّنا، لا تتجاوز الأبقار أسيجتها البسيطة، ولا تفزع الطيور من وقع الأقدام. كل شيء يسير في تناغم هادئ، كأن الزمن هنا لا يُقاس بالساعات، وإنما بنقاء الهواء وهمس الطبيعة.
أهالي القرية بطبعهم لا يرفعون أصواتهم. يلقون التحية بهدوء وابتسامة دافئة، ويمضون في أيامهم ببساطة ورضا. في الصباح ترى من يقود جرارًا نحو الحقل، ومن يركب دراجة إلى عمله، ومن يصحب كلبه في نزهة هادئة، وآخر يجلس عند حافة البحيرة متأملاً انعكاس الضوء على الماء.
ورغم صغر حجمها، لا تفتقر ڤرّنا إلى شيء. فيها شبكة مجارٍ ومياه إسالة، ومحطة قطار تربطها بالعالم، ومحطة وقود، وصالة رياضية (جم)، ومستوصف يلبّي حاجات السكان الطبية. وعلى أطرافها دار رعاية يجد فيها المسنّون دفء العناية وكرامة العيش، إلى جانب دار حضانة، ومدرسة ابتدائية، وملعب لكرة القدم، ومرسى للزوارق، ومحطة كهرباء تُغذّي المنطقة دون انقطاع.
كل هذه الخدمات ما كانت لتوجد لولا سياسة الدولة في دعم القرى، بغية تشجيع الناس وبينهم المتقاعدين على ترك صخب المدن واللجوء إلى حضن الأرياف. فهم يدركون أن الشيخوخة لا تحتاج سوى مقعد خشبي في ظل شجرة، وجار يبتسم كل صباح، وهواء نقي يُنعش القلب قبل الرئتين.
في وسط القرية متجر صغير تديره شركة معنية بربط القرى بالخدمات الأساسية. لا يشبه المتاجر الكبرى، لكنه يضم كل ما يحتاجه السكان. عند مدخله، تبتسم الموظفة وتُلقي التحية بهدوء، كأنها تقول لكل قادم: أهلًا بك في بيتك.
وعند حواف الغابات، تمتد حقول سنابل الحنطة الذهبية، ترقص للريح كأنها تقرأ قصيدة. تنتصب على جانب الطرق لافتات خشبية تعلن عن بيع الحليب الطازج أو البيض والخضار، في مشهد يذكّر بأن الزراعة لا تزال نابضة، وأن الأرض تُورث جيلاً بعد جيل.
وفي أيام الأحد، يتحوّل المطعم الوحيد في القرية إلى مجلس اجتماعي. يلتقي فيه السكان لتبادل الأحاديث، ويتشاركون الضحك والطعام، ويُعيدون نسج روابط الجيرة بعيدًا عن الدين أو العشيرة.
وسط هذا النسيج، أصبح صاحبي جزءًا من المشهد. يشاركهم الابتسامات، ويدعوهم إلى حفلات شواء في حديقته التي غدت رمزًا للاندماج الصادق. لا يتحدّث عن الانتماء، بل يمارسه. وفي المساء، حين تبدأ الشمس انسحابها البطيء، يتحوّل الأفق إلى لوحة سريالية من الذهب والبرتقال، في لحظة وداع ناعم، كأن الشمس تُخبر الأشجار بأنها ستعود... بعد أن تأخذ قسطًا من الراحة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي