بطء بطعم الشرق

سعد العبيدي
2025 / 7 / 11

لم يكن في الحسبان أن تبدأ الرحلة القصيرة من لندن إلى السويد بمشهد من الانتظار المعلّق في مطار ستانستيد، ثالث أكبر مطارات المدينة الستة. هناك، وجد ركاب رحلة أوربرو أنفسهم أمام تأخير صامت، بلا تفسير. شاشة تكرر الإعلان، وخطى تتبع الظل بين مقاهٍ ومطاعم مكررة، وكأن الزمن توقف فجأة، لا ينذر بانطلاق قريب ولا يعد بوصول وشيك.
ومع وفرة الوقت، اتخذ التأمل طابعًا فضوليًّا، لتتبع تاريخ هذا المطار الذي بدأ كقاعدة عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، تنطلق منها القاذفات الأمريكية B 26 لتنفيذ المهام فوق أوروبا المحتلة. قرب بوابات المغادرة، لوحات تذكارية صغيرة تخلّد مشاركين في مهام إنزال نورماندي عام 1944. ووجوه طيارين التُقطت قبل رحلات لم يعودوا منها، بقيت عالقة في الذاكرة، كأن الزمن أبقاها هناك، لحظةً قبل الإقلاع الأخير. وفي ركن آخر، لوحة لطاقم نجا لأن عطلاً ميكانيكياً أبطأه، تلمّح بهدوء إلى أن بعض التأخيرات قد تنقذ الحياة، ففي الحروب كما في الرحلات، قد يكون التأخير خلاصًا، وقد يكون مجرّد انتظار مثير على حافة المجهول.
مرت الساعة الثانية كأنها حجر اختبار للمزاج. غدا المطار طوالها كخلية نحل نشطة: مقاعد ممتلئة، وممرات تختنق بالمارة، ومسافرون افترشوا الأرض في مشاهد أقرب إلى لقطات وثائقية منهكة. غفا بعضهم جالسًا، كأن للانتظار طقسًا خاصًا من الرضا المُر.
"وأخيرًا، أقلعت الطائرة. ساعتان في السماء فوق سحب وادعة، لم تنجح في محو أثر الانتظار عن الوجوه. وعند الهبوط بعد منتصف الليل في مطار أوربرو، بدا المكان أقرب إلى حقل نائم منه إلى مطار؛ صمت يلف الجدران، نسيم بارد، ومحيط يوحي وكأنه كان يوما مزرعة أنيقة. انقسم المسافرون في الخطوات الأولى الى مكاتبه كما تنقسم خرائط السياسة: أبناء القارة في طابورهم القصير، والبقية — ونحن منهم — في طابور أطول من الرحلة ذاتها. سار الطابوران ببطء في ممر ضيق، يبدو وكأنه قد أُعدّ على عجل. جدرانه المعدنية الباردة تشبه شيئًا بين حاويات الشحن ومخارج الطوارئ. في وسطه، وقف زوجان بريطانيان. التفتت الزوجة، وقالت بصوتٍ مسموع:
كأننا في مكان خارج أوروبا! فأجابها وهو يطالع ساعته ضاحكًا:
اوروبا... على الطريقة الشرقية! ثم أضاف ممازحًا:
لو علمت، لحجزت إلى بيروت... أسرع وأدفأ!
عند خط الوصول، جلست في الواجهة ضابطة جوازات في الثلاثين من عمرها، ملامحها تحمل توازنًا فريدًا بين سمار الشرق ولون الشمال الفاتح، كانت جميلة بما يكفي لتخفيف وطأة الملل الذي صاحب البطء في الانجاز. وبصوت محايد، سألت:
ما سبب الزيارة؟ كم ستبقى؟ مع من تقيم؟ أين تذكرة العودة؟ كانت أسئلتها تمضي بنبرة رتيبة، لا تطلب إجابة بقدر ما توحي بأنها تبحث عن ما هو أعمق من البيانات؛ بقيّ عليها أن تسأل: ما هدفك في هذه الحياة؟
ختمت الجواز دون أن ترفع بصرها، وكأنها تختم مشهدًا خالٍ من البطولة، بلا ضوء، بلا تصفيق. عندها فقط أدركت أن البطء لا وطن له، وأن البيروقراطية قد تحمل جواز سفر أوربي داكن، وإن ليل السويد خارج المطار شاحب، يشبه النهار الكسول، فيه الطريق إلى المدينة ممتد بين حقول نائمة وأشجار واقفة كحراس القرى القديمة. تأملت صمته القاسي، وقلت في سري:
أوروبا... أنتِ أيضًا تتلعثمين.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي