|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 7 / 6
في كل عام، يعود مشهد كربلاء كأنما لم تمضِ عليه القرون. تُشعل القلوب نيران الأسى، وتسيل الدموع كما لو أن الطفّ لم يُروَ بعد بما يكفي من الدماء. يخيّم الحزن، ويتجدّد العهد، وتُرفَع رايات "يا لثارات الحسين" في كل زاوية من زوايا الوجدان.
ورغم هذا الحضور الطاغي، يظل في المشهد ما يدعو للتأمل، إذ تزداد الطقوس كثافة كلما غابت القيم، وكأنّ الصوت يعلو حيث المعنى يخفت. فالحسين، عليه السلام، لم يقدّم نفسه لنبكيه، وإنما ليوقظ روح الأمة، ويمنحها القدرة على الوقوف والرفض والانتصار للحق. نهض ليجعل الكرامة فعلًا يوميًا، لا شعارًا موسميًا.
ومع مرور السنوات، تتعاظم المراسم وتفقد الواقعة شيئًا من حرارتها الأولى. تذوب القيم التي حملتها الثورة في صخب الشعائر، ويتوارى الصدق خلف العبارات المكرورة، فيما تخبو كلمة الحق في أزمنة الصمت الطويل.
المفارقة جلية. فكلما اتسعت مساحات التعبير عن الحزن، تراجعت في المقابل مساحات التضحية والفعل. نلجأ إلى الذكرى بحثًا عن سكينة لا تغيّر، ونكرّر الطقوس كأنها تعفينا من واجب المواجهة.
وفي زمن تتسارع فيه المادية، وتستبد الغفلة، تتحوّل كربلاء إلى مَنجى جماعي من خجلٍ دفين، نلوذ به لا للنهوض، بل لتهدئة الضمير. يصبح الحزن غلافًا هشًّا يغطي انحدارًا أخلاقيًا، لا سبيل لتجاوزه إلا بإعادة إحياء ما مثّله الحسين من وضوح واستقامة وشجاعة.
أجدادنا، حين وقعت الواقعة، وقف كثيرٌ منهم متفرّجين، تاركين الحسين يمضي وحده في طريقه، حتى لو كانوا في قلوبهم يقرّون بصدقه. واليوم، نكاد نعيد المشهد بصيغة أخرى: نُجاهر بمحبته، ونؤازر بالصوت، ونردد النداء من بعيد، لكن أقدامنا لا تخطو في دربه، وأفعالنا لا تشبه مقصده. فنحن نحيي الذكرى، لكننا نُقصي المعنى.
تكريم الحسين ليس طقسًا نُمارسه، ولا موسمًا نمرّ به ثم ننصرف. هو عهد، يُكتب بالدمع والعمل، لا يُختصر برايةٍ مرفوعة ولا في موكبٍ عابر. فالحسين لم يترك لنا ذكرى، بل طريقًا محفوفًا بالتكليف: أن نقف حيث وقف، وأن ننطق حيث نطق، وأن نتحمّل الصمت إذا كان في الصمت حفظٌ للكرامة.
وها هي كربلاء، رغم السنين، ما زالت تصدح بندائها في قلوبنا. لا تعود إلينا لتوقظ الأحزان النائمة، وإنما لتقيس حرارة الوفاء فينا، وتكشف عمق الصدق في انتسابنا. ليست ذكرى تعبر بنا، إنما ميزان يومي يزن مواقفنا في زمن الالتباس. أفنحن حقًا أبناء الدم الذي تفجّر في الطفّ، أم أن خطانا ما زالت تائهة على سفوح التلّ، نكتفي بالبكاء من بعيد، والحسين يُذبح كل يوم في صمتنا؟
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |