![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
دلور ميقري
2025 / 7 / 6
1
الأفلام، التي تسرد السيرة الذاتية لمخرجيها، مألوفة سواءً في سينما هوليوود أو أوربا. في السينما المصرية، المعروفة بعراقتها، لا شك أن المخرج يوسف شاهين هوَ الأكثر بروزاً في ذلك النوع من الأفلام. " اسكندرية.. ليه؟ "، المنتج عام 1978، يروي فيه المخرجُ تفاصيلَ حياته في مسقط رأسه في خلال الحرب العالمية الثانية؛ في مدينةٍ، تعايشت فيها أثنيات وثقافات عديدة، لحين أن شهدت نهايتها مع وصول طغمة عسكرية للحكم عام 1952. ثم واصل يوسف شاهين سيرته الذاتية، بسلسلة من الأفلام، هيَ على التوالي: " حدوتة مصرية "، " اسكندرية كمان وكمان " و" اسكندرية ـ نيويورك ".
فيما لو تكلمنا عن السينما السورية، سنلاحظ أنها أنتجت عدداً من الأفلام، نُسجت مواضيعها من السيرة الذاتية لمؤلفيها وليسَ لمخرجيها. في هذا الشأن، سبقَ لنا دراسة فيلم " المخدوعون "، الصادر عام 1972، والمأخوذ عن رواية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، أنتجته المؤسسة العامة للسينما. نفس المؤسسة، ستنتج في عقد السبعينات أيضاً فيلمين، هما " بقايا صُوَر " و" اليازرلي " من تأليف حنا مينه؛ وقد قمنا أيضاً بدراستهما في مقالين منفصلين. أما الفيلم السوري الأول، الذي يعد سيرة ذاتية لمخرجه، فإنه " أحلام المدينة "، المنتج من لدُن المؤسسة العامة للسينما عام 1983. مخرج الفيلم، محمد ملص، يعيدنا في هذا الفيلم ذي الأجواء الرومانسية إلى طفولته بمدينة دمشق، وكانَ قد عاد إليها من مسقط رأسه في القنيطرة للاستقرار مع أسرته في منزل جدّه لأمه. هذا الأخير، يبدو من سياق الفيلم أنه كانَ غاضباً على الأم لأنها تزوجت رجلاً تحبه وبالرغم من إرادته. من خلال ترنّمه بأغنية تركمانية، نعلمُ الخلفية الإثنية لهذه الأسرة، والتي أنتشر أقرانها في الجولان السوري قبل نزوحهم على أثر هزيمة حزيران/ يونيو. ثم عاد محمد ملص لسيرته الذاتية بفيلم " الليل "، المنتج عام 1992، ليتحدث هذه المرة عن حلول والده في مدينة القنيطرة بأواسط ثلاثينات القرن المنصرم.
محمد ملص ( مواليد 1945 )، تعلّم في مدارس دمشق ثم أصبح بنفسه معلّماً لبضعة أعوام، وذلك قبل سفره إلى موسكو لدراسة الإخراج السينمائي. طوال مسيرته الفنية، لم يخرج سوى ثلاثة أفلام روائية طويلة وخمسة أفلام وثائقية. مع ذلك، يعد محمد ملص من أهم المخرجين السوريين، وحاز فلمه " أحلام المدينة " على عددٍ من الجوائز العربية والدولية. لقد إشترك في كتابة سيناريو الفيلم، سمير ذكرى، الذي سبقَ لنا دراسة أحد أعماله السينمائية؛ وهوَ " وقائع العام المقبل ".
2
شارة " أحلام المدينة "، كانت على شكل غير مألوف في السينما السورية. فأسماء المشاركين في الفيلم، عُرضت عقبَ نهايته، فيما عنوانه ظهرَ في المشهد الأول على خلفية ستارة ممزقة تحجب نافذة بيت قديم. كاميرا المصوّر الموهوب، حنا ورد، تأخذ المُشاهد عبرَ سور دمشق التاريخي، الذي إنبثقت منه نوافذ منازل الأهلين. أحد تلك البيوت، كانَ يصدر عنه هديلُ الحمام ورفرته، فيما كان يصطدم بزجاج النوافذ في سعيه للانطلاق إلى فضاء الحرية. هذه كانت ترميز للحالة السياسية في البلد، عبّرَ عنها وضعُ تاريخ على شارة الفيلم، 1953، مع صوت الحاكم العسكري، العقيد أديب الشيشكلي، فيما كان يتحدث من خلال الراديو. جزّار الزقاق، يخرج من دكانه رافعاً ساطوره وهوَ يردد شعار: " أديب بك لا تهتم، نعبئ لك بردى دم! ".
في الأثناء، تصل حافلة كبيرة إلى الزقاق ( كتب على واجهتها ما يفيد أنها تسير على خط القنيطرة ـ دمشق )، وهيَ تحمل أسرة مكونة من أم شابة وصبيين؛ أكبرهما لم يبلغ الثامنة من عمره. هذا الأخير، ويدعى محمد ديب ( قام بالدَور باسل الأبيض )، سنرى في السياق أنه مَن يروي حكاية الأسرة مذ لحظة وصولها إلى بيت جدّه لأمه في الشام القديمة. الجد ( الفنان رفيق السبيعي )، تلوح قسوته وفظاظته منذ البداية، حينما رفضَ إدخال الأسرة إلى بيته لولا تدخل جار شهم، يُدعى أبو رياح ( الفنان عدنان بركات ). لقد كانَ الجد ناقماً على ابنته، أم ديب ( قامت بالدَور الفنانة اللبنانية ياسمين خلاط )، كونها تزوجت على غير رغبته ـ كما أسلفنا في مستهل المقال.
محمد ديب يلتحق بالعمل في مصبغة، يمتلكها رجلٌ طريف ولطيف المعشر ( الفنان حسن دكاك )، فيما شقيقه الأصغر، عمر، يرميه الجد في ملجأ للأيتام. من خلال عمله في المصبغة، يتعرّف محمد على عالم الحارة الدمشقية، المفعم بالتناقضات والمفارقات والإشكالات: إن البقال، صفوح ( الفنان طلحت حمدي )، شخصٌ منحرف وقد خرجَ للتو من السجن وكان محكوماً لتعاطيه الحشيش. شقيقه الكبير، سعدي ( الفنان أديب شحادة )، يحاول إقتحام البقالية بين الحين والآخر، قائلاً للجيران: " صفوح إغتصبَ حصتي فيها ". صاحبُ بقالية أخرى، يُدعى أبو النور ( الفنان أيمن زيدان )، يُقدّم في السياق على أنه الأكثر وعياً في الحارة بأمور السياسة، فيرفع صوته أحياناً منتقداً سلطة الشيشكلي. ذات مرة، يُرسل المعلّم أجيره محمد إلى ورشة دباغة في زقاق مجاور. ثمة، يُدهش الصغير إزاء أناقة السيدات وما يتمتعن به من حرية، فيعلم أنهن مسيحيات. إحداهن، ياسمين ( الفنانة واحة الراهب )، أخذت منذئذٍ تعطف على الطفل الأجير، فتغني له أحياناً بصوتها الجميل.
عقدة حبكة الفيلم، تُستهل بمجيء امرأة تمتهن الدلالة ( الفنانة رجاء قوطرش ) لمقابلة أم محمد كي تعرض عليها العمل في خياطة عباءات نسائية، يتم بيعها لأسواق دول الخليج. وإذا بها تغري الأم، بضرورة إيجاد زوج قبل فوات الشباب. تحضر هذه الخاطبة بين فترة وأخرى، فتلحظ أن تلك الفكرة تروق للمرأة المسكينة. في حقيقة الحال، أن هذه الأخيرة كانت تعيش ظروفاً مهينة مع أبيها القاسي القلب والبخيل، فتوهمت أن زواجها سيتيح للابن الكبير مواصلة الدراسة وأن تخرج شقيقه من الملجأ. مشروع الزواج يصدم الابن محمد، وفي المقابل، يحظى بمباركة الجد كي يزيح عن كاهله عبء وجود الأسرة في كنفه.
جنباً لجنب مع حلم الأم بالانعتاق من ربقة أبيها، كانَ هناك في الزقاق رجلٌ أعمى ( الفنان فوزي بشارة )، يحلم باستعادة بصره الذي فقده في حرب فلسطين. في نفس الوقت، تتأزم الأمورُ في البلد عقبَ تمرد عسكريّ بمدينة حلب، ما حملَ العقيد الشيشكلي على التنازل عن السلطة لحكومة مدنية. وإذا بجزّار الحارة نفسه، يخرج من دكانه وهوَ يهتف هذه المرة للرئيس الجديد؛ شكري القوتلي. ثم يخطو الزمنُ عامين على الأثر، لنرى ردة فعل أهالي المدينة بشأن العدوان الثلاثي على مصر. عند ذلك، تنتشر في دمشق صُوَر الزعيم عبد الناصر، بوصفه محقق أحلام الجماهير في الوحدة العربية والعدالة وتحرير فلسطين.
حادثة دموية، تدهم الحارة في ذلك الحين. إن سعدي، المطالب بحقه في الدكان، يشتبك مع شقيقه الأصغر في مشادةٍ تنتهي بمقتله. مشهد إحتضار الرجل، فيما كانَ يركب على دراجته ويدور بها في ساحة الزقاق قبل سقوطه ميتاً، أعتبره من أكثر المشاهد تأثيراً في تاريخ السينما السورية.
تلك الحادثة، ترافقت مع تحول حلم أم محمد إلى كابوس، وذلك عقبَ معاشرتها للزوج النذل. لكنها تعود إليه مجبرة، لعلمها ما ينتظرها في دار والدها. في الأثناء، تتزيّن المدينة لاستقبال الزعيم عبد الناصر، الذي غدا رئيس الجمهورية العربية المتحدة، الوليدة.
ما لم يقله الفيلم، هوَ أن أحلام المدينة، ستتحوّل بدَورها إلى كوابيسٍ في ليل الوحدة، الذي جثمَ على صدور سكانها مع أفانين جديدة من القمع والتنكيل علاوة على دمار الإقتصاد.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |