|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 6 / 25
في الأزمنة الماضية، كان النجاح وليد الجهد، ولا تُنال المكانة إلا بالاستحقاق، وتقاس الكلمة بميزان الحكمة قبل أن تُنطق. أما اليوم، فقد انقلبت المعايير، وطفَت الرداءة على السطح، وغدا السخف يُصفَّق له، والتفاهة تُمجّد ذاتها في المرايا، بينما يبتلع المجتمع مراراته في صمتٍ ثقيل. إنه زمن التفاهة: منظومة تسللت بهدوء إلى جسد البلاد، نخرت أعمدتها، حتى صار من الطبيعي أن يُحتفى بالكاذب، ويُكافأ الفاسد، ويُقدَّم الجاهل على العالم، لأن الصوت المرتفع بات يغلب العقل، والواجهة طغت على الجوهر.
تفوح في الشوارع رائحة اللا معنى. لافتات تُعلّق على الجدران لا تقول شيئًا، صور على أعمدة الكهرباء لا تشير إلى حاضر أو مستقبل، وعبارات ثورية مكتوبة على الأرصفة المتكسرة، بين أكياس النفايات. مدن كاملة تنام على فوضى الشعارات وتستيقظ على غبار الأوهام.
مشاعر الكراهية تنتشر بلا جذور، كأنما هناك من بثَّها في الهواء. السني يكره الشيعي ولا يعرف لماذا، والشيعي يبادله الضيق، والكردي ينظر إلى العربي كمن ينظر إلى دخيل. كراهية بلا تفسير، وكأنّ الذاكرة تُحرَّك عن بُعد لتمنع أي حوار قبل أن يبدأ.
طقوس التدين خرجت من محرابها، وغرقت في بحر من المظاهر. لم تعد تربط الإنسان بالسماء، بعد أن صارت عرضًا شعبيًا تُبالغ فيه الأجساد وتُنسى فيه الأرواح. تطبير، وتطيين، وتدليك أقدام على الطرقات، تحوّلت إلى مسرح استعراضي، لا يجرؤ العالم على منعه، لأن الجهل يثور، والغوغاء يكفّرون، والدم يُهدَر.
أما التعليم، فأصبح حكاية أخرى من حكايات التفاهة. آلاف الشهادات العليا تُمنَح بلا امتحان، بلا أطاريح، بلا معنى. دكتوراه تُشترى من جامعات لا وجود لها، وألقاب تُمنَح لمن لا يفرّق بين البحث والتقليد. في هذا البلد، تستطيع أن تكون "الدكتور الشيخ اللواء" إن كنت تملك علاقات أو مالًا أو لسانًا يُتقن المديح.
في مراكز القرار، يكذب المسؤول ثم ينكر ثم يُكافأ. يُنتخب مرة واثنتين، ويعود متوّجًا، لا لأن الناس لا تعرف، بل لأن لا بديل، أو لأن الذاكرة تعبت، أو لأن التفاهة انتصرت. سياسيون يسرقون البحوث، يضعون أسماءهم على ما لم يكتبوه، يحتفلون بافتتاح قنطرة متهالكة كأنها نصر، ويقيمون تمثالًا قبيحًا لأسد لا يشبه إلا قبح ما نعيشه.
ضاقت الأحلام. لم يعد أحد يحلم بالمعرفة أو التأثير. صار الحلم بيتًا كبيرًا وسيارة سوداء ورصيدًا ماليًا لا يُسأل عن مصدره، وأصبحت الغاية أن يملك، لا أن يعرف. أن يظهر، أن يكون مشهورًا، لا أن يكون ذا قيمة.
وفي وسط هذا الركام، يستيقظ الفاسد على مشروع جديد: مصرف، كلية، أو مستشفى، يعمل فيها النزهاء، ويأتمرون بأمره. لم يعد غريبًا أن يصبح الشريف تابعًا للفاسد، لأن السوق تحكم، والسلطة لا تسأل، والناس تطأطئ الرؤوس.
كل شيء قابل للدوران. نفس الوجوه في البرلمان، في الوزارات، في الإعلام. تدوير للفساد كما تُدوَّر النفايات، لكن بلا فائدة.
صار من الصعب أن يقول أحدهم: "لا أعرف". كلهم يعرفون. في كل حوار، تجد من يفتي في الدين، في السياسة، في الاقتصاد، في الفيزياء. مجرد رأي يصدَّر على أنه حقيقة، ويُمنَح مساحة على الشاشات أكثر من الأكاديمي والمتخصص.
في النهاية، نحن هنا لا نتحدث عن تفاصيل عابرة. بل عن نمط حياة أصبح مألوفًا. وعن تفاهة صارت عرفًا، فاغتالت كل محاولة للتقدّم، وجففت منابع التفكير، وحوّلت الثقافة إلى عبء.
لكن التفاهة ليست قدَرًا، يمكن مواجهتها بخطاب حماسي أو بإصدار الأوامر والتوجيهات، إن المواجهة الحقة بالفعل اليومي الجاد، بالصدق، بالكلمة المتقنة، بالرفض المتأني، بإعادة الاعتبار لما له معنى. والأهم هو أن العراق ليس بلدًا تافهًا، لكنه مُحاط بالتافهين. وإن أُغلقت نوافذ النور، لا بد أن تنفذ شقوق صغيرة منه، لمن لا يزال يؤمن أن القيمة لا تُصنَع بالصوت، بل بالعقل.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |