|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 6 / 16
تتناسل أحزان العراق، ولا تنقضي، كل جيل يرث حزن الجيل الذي سبقه، ويضيف إليه تجربته الخاصة، ثم يسلّمه للذي يليه بملامح أكثر تعقيدًا. يستقرّ في الزوايا، يتكاثر بهدوء، ويعيد تشكيل النفس والوعي والعلاقات. فما إن ينهض العراقي من مأساة حتى يجد أخرى بانتظاره، لا تمنحه حتى الوقت الكافي لالتقاط أنفاسه أو النظر خلفه، حقيقة جسدها الشاعر الحلي المرحوم موفق محمد في بيتين من قصيدته:
أفنيتَ عمرك لم تقم من وجعةٍ إلا وطحت بأخرى ... سرمهر وأنگس.
وما تخلصتَ من بورٍ لطمتَ به إلا تمنيته... فالجاي بعد أنكس"
إن الحزن في شعر موفق وأسلوبه في الحياة يعني الحزن صار سياقا للعيش ممتدًا قد اعتدناه، لكن الاعتياد لا يعني الشفاء. فالفرد حين لا يجد بيئة حاضنة لتفريغ حزنه، يتعلّم كبت مشاعره. ومع الكبت المزمن، تفقد الأحزان معناها الأصلي كاستجابة طبيعية لفقدٍ أو صدمة، وتتحول إلى نمط داخلي صامت، يُعيد تشكيل الإدراك والانفعال. وهكذا تتسرب السوداوية إلى الحياة اليومية، لا بوصفها موقفًا من البيئة المحيطة، وإنما كأسلوب للعيش فيها. وطول العيش في ربوعها يجعل الانسان لا يحزن فقط حين يُظلم، وإنما حين يتذكر ظلم غيره. يحمل أحزان الآخرين كما لو كانت خاصته، ويجعل ذاكرته مقيدة أكثر من اللازم، تحفظ صورًا لمآتم لم يشهدها، ولصراخات لم يسمعها، باق صداها راسخ في وجدانه.
هذه الذاكرة المعبأة بالخسارات لا تتيح له نسيانًا مريحًا، بقدر ما تُغلق عليه باب المستقبل، لأن تجاوز الحزن يتطلّب قدرة على إعادة صياغة المعنى، والبحث عن أفق جديد، بينما في الذاكرة العراقية، لم تكتمل سردية الأمل حتى تُروى.
كما أن الدولة والمجتمع في العراق لا يشجعون على النسيان، ولا يسندون التغيير. كثير من الطقوس، والرموز، واللغة والأفعال، تجعل من الحزن صفة للشخص الثائر، والرزين، والناضج، وتظهر الفرح خفيفًا عابرًا، أو غير جدّي. إنه توجّه، وإن لم يُصرّح به، يخلق شعورًا بالذنب تجاه محاولات النسيان، يعطي الحزن معنى الخيانة لذاكرة الضحايا، أو تنكّر لما مرّت به البلاد، ويجعل المواطن يعيش على تراكم الحزن في خزين الوعي، مشوشًا لا يجد نقطة واضحة يقول منها "انتهى هذا الحزن"، لأنه يتخيل أن دورة جديدة تنتظره، وإن الفقد عنده لا يُنهيه عزاء، ولا يسكّنه الزمن، يتكثف في شكل قلق مستمر، وتوقّع دائم للخسارة.
لذلك، لا يعد الحزن في مدركاته عندنا استجابة، وإنما استعدادًا نفسيًا فاعلًا. ليس معنى هذا أننا لا نريد الخلاص، لكننا في الواقع لم نجد بعد وسيلة لتطهير الخزين العفن لذاكرتنا دون تمزيقها. لم نتعلم كيف نملك أحزاننا دون أن تملكنا. وهذا تحديدًا، ما جعل الحزن بيننا طويل العمر: شعور مقيم، له مكان في العقل، في اللغة، في الموسيقى، وفي تربية الأطفال، وليس مجرّد ذكرى، على هذا ولكي نتجاوز أحزاننا، لا يكفي أن تتغير الظروف المحيطة بنا. نحتاج إلى إعادة تأهيل مشاعرنا نفسها، فهم الحزن لا بوصفه وطنًا بديلاً، بل حالة يجب أن تعبر. نحتاج أن يُقال لنا: ما حدث كان مؤلمًا، لكن الحياة لا تنتظر. وإن الحزن حين يُحتضن أكثر مما يجب، يصبح عبئًا يحول دون أن يكون الانسان هو نفسه. ونحتاج أن نتعلم كيف نضع لهذا الشعور حدًا، وإذا لم نتعلم سنبقى نمشي، داخل دوّامة اكتئاب تعيد نفسها باسم الذاكرة، وتغلق علينا باب السعادة.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |