|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 6 / 15
عادل، موظف في إحدى دوائر بابل، لا ينام دون أن يضع حرزًا تحت وسادته. ورقة صغيرة كتبها له أحد السادة يوم ولادته لتقيه الحسد. طقس تشكّل، حين كانت الوالدة تهمس له بحنان مفرط أن العين أسرع من المرض. فتسربت تلك الكلمات الي وعيه، وأنشأت خوفًا يدارى بطقوس الخرافة.
لكن ما يبدو عادة شخصية، هو في جوهره صورة مصغرة لمجتمع يلوذ بالخرافة كوسادة خوف. ففي زمنٍ بلغت فيه البشرية ذروة التكنولوجيا، ما زالت الخرافة بيننا تؤدي دورًا يتجاوز الترف الروحي، لتغدو وسيلة بقاء، كائنًا طفيليًا ينمو كلما عجز العقل عن الفهم، وتآكل المنطق أمام القلق المزمن.
قصة عادل ليست استثناءً، إنها انعكاس لبنية ذهنية شُكِّلت تحت ضغط التاريخ، لا ضعف الفطرة. فالعقل العراقي، في أصله، لا يقل قدرة عن غيره، لكنه تعرّض، خلال العقود الماضية، لصدمات متتالية: حروب، حصار، قمع، وعنف أشبه بالدائم، فتكوّن داخله خوف مقيم من التفاصيل اليومية: من الغد، من التيار المنقطع، من العبوة التي قد تختبئ خلف الباب.
ومع تراكم الخطر وتشظّيه، وغياب التفسير الرسمي العقلاني، تعززت الخرافة كمُسكن، كحيلة نفسية تحاول تنظيم الفوضى المتصاعدة في العقل. سلسلة في بلادنا لم تنقطع، لقد ازدادت بعد عام 2003. فحين انهارت المنظومة القمعية التي كانت تمسك بزمام التخويف، لم يُفتح الباب للعقل كي يفسر، ترك التفسير مجالًا فارغًا ملأه أولئك الذين ركبوا موجة الدين رياءً، وقدد جاؤوا بفتاوى "النجاة من النار" بدل مناهج التنوير، واحتلوا مكانة في الدولة يفترض أن يشغلها العلماء والمفكرون فزادوا وقع الخرافة، وشاركوهم سياسيون اقتحموا مجال الدين ليحصنوا أنفسهم، فجعلوا من "الاستخارة" أداة لاتخاذ قرارات أمنية مصيرية، ومن فصائل بنت رؤاها على الأحلام، وعلى فقراء الأحياء، ملأت لهم الجدران إعلانات علاج بالرقيّة لفتح أبواب الرزق، وجلب المحبة والفوز بالآخرة. عدوى امتدت بين المتعلمين فصار بعضهم يُحذّر من الحسد أكثر من البكتيريا، ويشير إلى الربط بشباك الامام كبديل عن العلاج النفسي، وامتدت الى الدولة التي صارت بعض مفاصلها راعٍ غير معلن لهذا النمط من التفكير. وجّهت ميزانياتها إلى المواكب، وأهملت المدارس. نظّمت الزيارات المليونية بكفاءة، وتركت المستشفيات بلا أجهزة تخدير صالحة.
هكذا، غدت الخرافة في بلادنا نظامًا غير معلن، يُستخدم لإبقاء الناس في موقع التبعية، إذ أن الانسان وكلما ظن أن خلاصه بيد "الولي"، تراجعت ثقته بالقانون، وتقلص اعتماده على عقله، وصار مستعدًا لأن يقاد دون اعتراض.
اليوم وبسبب سعة وقع الخرافة في البلاد، كثيرون يتصرفون كما لو أنهم أسرى فصام مجتمعي. يرون ما لا يُرى، ويسمعون ما لا يُسمع، ويعيشون وفق قرارات لا عقلانية: المرأة التي تخشى مرض طفلها إن لم تأخذه للزيارة، الطالب الذي يربط نجاحه بتعويذة مطوية في محفظته، الجندي الذي يعلّق نجاته على نذر، كأنهم يركبون قاربًا مثقوبًا في عاصفة، موقنين أن التعاويذ ستمنع الغرق.
عادل، وقد بلغ الأربعين، بدأ يشعر بالإنهاك من طقوسه اليومية. صار يعترف بخوفه، ويسأل إن كان ممكنًا الخروج من هذا النفق المظلم، والاجابة المنطقية: ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب شجاعة ثقافية تبدأ من التعليم. إدخال التفكير النقدي في المناهج، تمويل المختبرات لا الخرافات، وفهم الطب النفسي علاجًا لا يناقض الإيمان. عندها، سينكمش ظل الخرافة، ويستطيع عادل، وأمثاله، أن يناموا أخيرًا دون وسادة من وهم.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |