|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 6 / 6
حين يكون العقل البشري ساحة مفتوحة للمعرفة والتجربة، فإن الوعي ينمو حرًّا، على نحو يعبّر فيه الإنسان عن ذاته، عن شكّه ويقينه، أما حين تصبح هذه الساحة تحت رقابة صارمة، وتُملأ بمعارف مختارة ومفاهيم مكرّسة لخدمة السلطة أو الأيديولوجيا، فإن ما يُبنى ليس وعيًا حرًّا، وإنما ذاكرة مُعلّبة، ويكون بالتالي خزان الوعي الجماعي تحت سيطرة الدولة، كما حصل في الدولة العراقية خلال الزمن السابق عندما توجهت لتشكيل الإنسان الجديد كما ترى من خلال سلسلة إجراءات طويلة بدأت في سنيّ الطفولة:
من رياض أطفال تغني للقائد، ومناهج موحدة تكرر مآثر القائد. من كلمات الأغنية التي تمجد بالحزب القائد. ومن صور تُلصق على الجدران، وجداريات تُبنى في الأركان. تماشيًا مع رؤية الدولة من أن الإنسان لا يتشكل فقط بالقوانين أو العقوبات، وإنما بما يخزّنه الوعي من صور وتصورات ومعانٍ وانفعالات. وتوافقًا مع مساعيها في تكوين بيئة لا يكون المتلقي مجرد متعلّم، وإنما مستقبلًا مستمرًّا لرسائل مصمّمة، حيث لا يظهر الوطن في الكتاب إلا من خلال وجه القائد. ولا يعرض العالم في الإعلام، إلا عبر خطاب الانتصار أو الخيانة. وهكذا، شيئًا فشيئًا، تحوّل الوعي الجمعي عندنا إلى خزان مشترك، لا يحمل تنوع الناس، وإنما إجماعًا مُفتعلاً ومكررًا، يمهد لصناعة إنسان جديد بوعي له على مقاس السلطة.
في عراق الزمن السابق وما بعد الثمانينات على وجه التحديد، لم يكن المشروع الدعائي لتكوين "الإنسان الجديد" فكرة عابرة، وإنما كان هدفًا سياسيًا ممنهجًا، وُضعت له خطط وآليات وشُرّعت له مؤسسات، لتقوم بمهمة إعادة تشكيله من الداخل، تشكيلًا يشمل كل طبقات خزين الوعي: ما يشعر به المواطن، وما يؤمن به، وما يخاف منه، بغية تصنيع صورة بطل لا يُناقش، وأدوات تربوية ترسّخ الإذعان، وإعلام النغمة الواحدة: القائد هو الدولة، والدولة هي الوطن، والوطن هو المعركة.
هكذا، لم يعد العراقي يكوّن وعيه، وإنما يُكوَّن له وعي. يخزّن ما قيل له أن يشعر به، أو أن يتذكّره، وليس ما رآه أو أحسّه، كأنها عملية لإعادة كتابة الذات العراقية. أخطر ما فيها احتكار أدوات التخزين ليس فقط بفرض أفكار جديدة، وإنما أيضًا بطمس التجربة القديمة، عبر إعادة كتابة الماضي، وإعادة ترتيب الوقائع، وجعل الأعياد والمناسبات الشخصية تاريخًا بديلاً، وتحويل الحروب الخاسرة إلى أمجاد.
في مثل هذا المناخ، مسحت الأحداث الحقيقية من الوعي، لتحل محلها تأويلات مقننة، فوجد الإنسان العراقي نفسه وقد خسر ليس حريته فقط، وإنما أيضًا حقه في تذكّر ما جرى. وكأن ذاكرته تحولت، وبتحولها أصبح الوعي، مع الوقت، ميدانًا للنجاة وليس بابًا للمعرفة: أي رأي قد يُحسب عليك. أي شعور لا يتماشى مع الرواية الرسمية قد يعرّضك للعقاب. ومع التكرار، اقتربت الذات نفسها من التصديق، لأن المخزون في الوعي بات مائلًا تمامًا لكفّة واحدة، وعمليات التفكير صارت تتم عبر قوالب جاهزة.
في هذا السياق، تشكل الإنسان الذي لا يسأل الدولة، لأن قدرته على السؤال لم تعُد جزءًا من بنيته الواعية، والأخطر في هذه المسألة هي النتائج النفسية والاجتماعية، أو ما يمكن تسميته مجازًا إرث التخزين القسري، إذ أثبتت التجربة أن النظام الشمولي السابق، حتى بعد انهياره عام 2003، ظل أثر التخزين القسري في البنية حاضرًا في السلوك الجمعي والفردي، إذ بقيت الذاكرة مشوشة، وصَعُب عليها التفريق بين التجربة الحقيقية والتجربة المصنّعة، وظهر فيها الخوف من التعبير، والحذر من النقاش ثانية، حتى في المساحات المفتوحة، ووجد العديد أنفسهم منحازين لا شعوريًا لنسخ قديمة من الحقيقة، فقط لأنها ما ترسّب في داخلهم، وما عاشوه ردحًا من الزمن كيقين. وأثبتت أن الدولة اللاحقة أي الحالية لم تبق نفسها خارج منطق السيطرة على خزان الوعي، فقد استأنفت وبالتدريج اللعبة بأدوات جديدة، وإن اختلفت الشعارات، حيث لم يعد القائد هو المركز وإنما التيار، أو الحزب، أو الرمز الديني. وتم استبدال صوت المذياع الموحّد بخطب المساجد والحسينيات. وأعيدت كتابة المناهج المدرسية لتُعيد هندسة الوعي باتجاه جديد، يُكرّس انتماءً ضيقًا، ومفاهيم ملوّنة بهوية طائفية. وصعدت الطقوس إلى الواجهة، وأُغرق الفضاء العام بالمناسبات الدينية التي تتكرر على مدار السنة، كوسائل فعّالة لإعادة إنتاج الشعور الجمعي والانفعال الجماعي، بما يخدم توجهات طائفية. وسُخِّرت وسائل إعلام، لتؤدي نفس الوظيفة السابقة: صناعة الوجدان الجمعي على قياس السلطة، وإن اختلفت الرموز.
ولم يقف الأمر عند هذه الحدود، بعد أن سُمح لمؤسسات دينية أن تؤسس مدارس وجامعات، وتمنح الشهادات الأكاديمية، وتُقيم الندوات والدورات التي تُعيد ترسيخ خطاب أحادي، يعيد إنتاج الطائفة بوصفها هوية نهائية. وكأن العراق استبدل "الحزب القائد" بـ"الطائفة القائدة"، و"الثورة" بـ"الطقوس"، و"الإنسان الجديد" بـ"المؤمن الملتزم"، مع اختلاف الغطاء وبقاء الجوهر ذاته. إنها عملية تخزين الوعي الجمعي تحت وصاية واحدة، وهي عملية بطبيعتها تمنع التنوع، وتُقصي الاختلاف، وتحوّل الذاكرة من رافد للتحرر إلى أداة للهيمنة.
بهذا المعنى، لم تكن مرحلة ما بعد 2003 قطيعة مع الماضي السلطوي، بل كانت استمرارية له بمفردات جديدة، تُعيد إنتاج نفس منطق احتكار أدوات التخزين، لا بهدف بناء مجتمع واعٍ، بل لتوجيه السلوك، وصياغة الرأي، واحتواء الشعور، ضمن قالب يُناسب السلطة القائمة، مهما تغيّرت أسماؤها أو لَبِست من لبوس.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |