حكاية راهب ومدينة

سعد العبيدي
2025 / 6 / 1

كان صباح لاهاي رماديًّا متثائبًا، من تلك الصباحات التي تهمس بما لا يُقال، وتكتفي بأن ترسلك إلى حيث الصمت يصير لغة.
السماء مبللة بندى الغيم، والضوء يسير على رؤوس أصابعه، كأنه لا يريد إيقاظ المدينة.
الطرقات التي كانت بالأمس مسرحًا لحكايات المارّة والدراجات وصخب المكاتب، بدت صباح اليوم خالية إلا من أثر الذاكرة. كأن المدينة تنفست عميقًا وقالت: يكفيني اليوم.
نظرة سريعة بيننا، ثم لجوءٌ فوري إلى العم "غوغل"، الذي أفصح عن السر: عطلة رسمية.
وهولندا، حين تُقرر أن ترتاح، تفعل ذلك بنزاهة كاملة. لا مقاهٍ مفتوحة، لا مخابز ترحب برائحة الخبز الطازج، ولا حتى مقهى صغير يمنحك فنجان البداية. وإذ لا شيء يُغري بالبقاء في مدينة اختارت أن تحلم، حملنا أنفسنا وانطلقنا شرقًا، حيث الريف الهولندي يفرش ذاكرته أمام العابرين.
دخلنا ديڤينتر من جهتها الغربية، فكانت المدينة، التي تطل على ضفة نهر آيسل، تُشبه شيئًا نقرأ عنه أكثر مما نراه. ثم كأن الزمن أراد أن يهمس، فتسللت إلينا حكاية قديمة — حكاية راهبٍ عبر البحر ليزرع فكرة، بدأت عام 768م، حين كانت قبائل الساكسون تسكن ضفاف النهر، وتعبد آلهة الغابة والريح والصواعق، وصل هذا الراهب من بلاد الإنجليز. اسمه ليبرتانيوس، لا شيء في مظهره يوحي بالقوة، سوى الإيمان.
والإيمان، حين يتجسد في هيئة إنسان، يصبح له صوت، وصبر، وسكون غريب.
اختار تلة صغيرة تُشرف على النهر، وأقام فوقها كنيسة خشبية متواضعة، لم تكن سوى كوخ مصلّى، صار أول حجر في قصة هذه المدينة. كان الراهب يعرف أن الكلمة لا تُزرع بالعنف، فحوّل كنيسته إلى مركز فكري وتعليمي، علّم فيه الأطفال والرجال والنساء، قرأ لهم، وصلى معهم، وروى حكايات أخرى عن إله واحد يسكن القلب، وليس الغابة التي اليها يرجعون.
بدأ الناس يقتربون منه بحذر، ثم بحميمية، حتى استقر البعض حوله، وتكوّنت قرية صغيرة، كأن الأرض كانت تنتظر هذا الصدى كي تنبت عليها مدينة. ولما قوي صوته واتسعت دائرة أتباعه، لم يكتفِ بالسكون.
دخل أحد المعابد الوثنية الكبرى، صعد درجاته الحجرية بثقة عالية، ثم وقف تحت تمثال "ثور"، الإله الذي يُرهَب اسمه، وقال:
"إني لا أحمل سيفًا، لكني أحمل كلمة. أتيت لا لأنتزع آلهتكم، بل لأريكم ما قد يكون أرحب."
عندها اهتزّ المكان، انقسم الناس، صرخ البعض، وفكر البعض، وصمت البعض الآخر. حدثت على إثرها اضطرابات، صدامات، لكنه لم يختفِ. ظلّ هناك، يحكي، ويصلي، ويصغي.
حتى جاء اليوم الذي أسلم فيه الروح، منهكًا من سعي طويل، مبقيًا خلفه أتباعًا، وكلمة، ومدينة بدأت تنمو. ومن أجل ذكراه، أقاموا فوق التلة ذاتها كنيسة سانت ليبراتيوس، التي ما تزال حتى اليوم عامرة، بعد أكثر من اثني عشر قرنًا، تُطل على النهر نفسه، وتحرس الحكاية. وما تزال أزقة المدينة القديمة شاخصة كما هي. أدخلوا عليها حداثة، لم تشوه أصلها، ولم تُطفئ الروح التي تسكن وسطها بين الحجارة، وكي تبقى هذه الروح فاعلة أقامت سيدة هولندية عاشقة لأدب تشارلز ديكنز متحفًا صغيرًا، وكأنها تقاوم به النسيان.
جمعت عبر سنوات مقتنياته، كأنها تنقذ ما يمكن إنقاذه من عصر مضى، وضعته في متحف بلا ضجيج أو دعايات. مجرد باب خشبي قديم ولوحة صغيرة، كأن المكان لا يريد أن يُكتشف إلا لمن يبحث بقلبه.
دخلنا، وكأننا نخطو إلى غرفة معيشة في زمن فيكتوري. الكتب مصطفة بخشوع، الرسائل خلف زجاج مضيء، قطعة أثاث هنا، ومصباح غازي هناك. كل شيء يحتفي برجلٍ عاش ليكتب عن الحزن والكرامة، وقلوب تنبض في زمنٍ لا يشبه زمننا. لقد رحلت السيدة كما رحل الراهب وبقيَّ أثرها حاضرًا مثل أثره، لأنها مثله لم تأت لتغيّر كل شيء، بل لتحرس شيئًا صغيرًا، أنقذته من النسيان.
كان المتحف آخر خطوة في هذه المدينة الجميلة، واصلنا من بعده السير في أزقتها القديمة.، ثم جلسنا على مصطبة نفكر في الراهب، وفي السيدة، وفي كل من آمن أن الأشياء الصغيرة تستحق أن تُبنى، أن تُصان، أن تُروى. ثم حان الوقت، وبدأنا الطريق نحو الأراضي الألمانية. لكن شيئًا من ديڤينتر ظلّ في المقعد الخلفي، في مرآة الرؤية، في القلب: المدن التي تمنحك قصتين في زيارة واحدة — حكاية قديمة، وأخرى معاصرة — لا تُنسى بسهولة. ربما لأن بعض الأماكن لا تغادرنا، حتى بعد أن نغادرها.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي