|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 5 / 26
لم تكتفِ السلطة في العراق، قبل عام 2003، باحتكار أدوات التخزين المعرفي، فقد ذهبت إلى ما هو أشد تأثيرًا وأبعد أثرًا: تشكيل الإنسان نفسه عبر النمذجة السلوكية، آلية نفسية تقوم على تحويل رموز السلطة إلى أمثلة يُحتذى بها، بالإجبار أو التكرار المفرط حتى يتحول التقمص إلى سلوك يومي. إذ إن الإنسان لا يتعلم فقط من خلال ما يخوضه من تجارب، وإنما مما يلاحظه في سلوك الآخرين أيضًا. وحين يُحاصر بمجموعة واحدة من "النماذج" الاجتماعية، التي تتكرر وتُضخم وتُلمّع، فلا يعود التماهي خيارًا حرًا، وإنما ضرورة لا واعية، خصوصًا عندما يكون البديل الوحيد هو التهميش أو الاتهام أو العقاب.
في الزمن السابق، صُممت القدوات بعناية لتعكس مواصفات محددة لا تقبل التعدد أو التنوع: الجندي المطيع، المواطن الذي يهتف، والقائد الذي لا يُناقَش. حتى الأب في البيت والمعلم في المدرسة تحوّلا إلى أذرع لنقل السلوك المرغوب، بصيغته الرسمية، وليس الإنسانية.
كان الإعلام حقلًا للنمذجة القسرية بامتياز، إذ لم تكن النشرات والأغاني والبرامج تنقل خبرًا أو رأيًا، بقدر ما كانت تصوغ شكلًا للسلوك والانفعال، حيث يُرى القائد دومًا منتصرًا، والمعارض دومًا خائنًا، والشعب مصفقًا. ما يُبثّ لم يكن محتوى، كان وكأنه تمرين على التقليد.
في المدرسة، تغيّر دور المعلم من مربي إلى مرسل لأوامر سلوكية مغلفة بالمناهج.
أُعيدت كتابة العديد من معطيات التاريخ، ليس من أجل الحقيقة وإنما لصنع ذاكرة موحّدة لا ترى في النظام إلا المنقذ.
وخنقت الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وعُدّ التفكير النقدي تشكيكًا.
وتحولت الطاعة إلى فضيلة كبرى.
لقد أصبح الرعب شريكًا دائمًا في هذه النمذجة. حين تُقطع الرقاب بسبب رأي، أو تُجر العائلات إلى التحقيقات بسبب جملة عابرة، يصبح الخوف جزءًا من التربية اليومية. ومع الوقت أصبح مكونًا أصيلًا في اتخاذ القرار، حتى في أبسط المواقف.
وهكذا استمرت النمذجة بعد 2003 بثوب آخر، أو أعيد تشغيلها بعد فترة من ذلك التاريخ في اتجاه مختلف، تغيرت فيه الأدوار وبقيَّ الجوهر قائمًا:
فرض أنماط سلوكية جاهزة، من بوابة الدين الطائفي هذه المرة، وليس من نافذة الحزب القائد.
في الزمن السابق كان الجندي الذي يضحي هو النموذج، أما الآن فصار "المؤمن" وفق طقوس معينة، هو المثال الأعلى، ومن لا يصلي مخالف مشكوك في ولائه.
ان المؤسسات التي ظهرت بعد 2003، الدينية منها أو الحزبية، مارست نمذجة سلوكية مشابهة بأدوات مختلفة:
رجال دين تحولوا مراجع لسلوك يومي لا يقبل النقاش.
مدارس وجامعات مرتبطة بجهات عقائدية أخذت على عاتقها "تربية الجيل" ضمن قوالب جاهزة.
تحولت المناسبات الدينية إلى أدوات لقياس الولاء الجماعي الى المؤسسة الدينية.
وهكذا أنتجت النماذج السلوكية الجديدة وبكثافة: الخطيب الذي يُتقن خطاب العاطفة. المتدين الذي يلتزم بالرمزية. المشارك في المواكب الحسينيّة، المساهم في نشاطات الجماعة رياءً. وبالتدريج أصبح هؤلاء مرآة يراقب الناس أنفسهم فيها، وينحتون سلوكهم على شاكلتها، وإن لم يقتنعوا تمامًا بها.
واللغة من جانبها تغيّرت مرة أخرى فأصبحت "الحرية" مرتبطة بالطائفة، و"الكرامة" مشروطة بالانتماء الى العشيرة، و"الحقيقة" صارت نسبية، تُحددها الجهة المُمولة للمؤسسة الإعلامية أو التربوية أو الدينية.
وعلى هذا يمكن التأكيد على أن السلوك في الحالتين لا يُترك للحرية مجالًا لتشكيه، سواء في النظام السابق، أم فيما تلاه وإن كان بدرجة أخف وبتوجهات ليست مركزية، كانت النمذجة حاضرة بصيغ مختلفة لتشكيل السلوك المطلوب: مرة بالقوة، ومرة بالإغراء. مرة بزيّ الجندي، ومرة بثوب الواعظ. والنتيجة واحدة: إنسان مشكل وفق قالب خارجي، لا ذات حرّة. والأخطر، أن تراكم هذه النماذج المفروضة عبر عقود، ترك أثرًا عميقًا في النفس العراقية. أصبح من الصعب التمييز بين ما اختاره المواطن عن قناعة، وما تم تكراره عليه حتى صار يُشبهه. وبين ما يبدو كإيمان، وما هو في جوهره مجرد تكيّف مع السلطة السائدة.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |