شرطي الأمن الداخلي: زقيب الوعي الذاتي

سعد العبيدي
2025 / 5 / 22

في زمنٍ غير بعيد، كان النظام السياسي يُنزل العقاب القاسي على من يكتب مقالًا لا يتماهى مع أيديولوجيا الحزب، أو لا يسبّح بحمد القائد. كانت الكلمة النقدية تكلّف صاحبها حياته، خاصة إن اقتربت من دائرة الرئيس أو أسرته، فتشتدّ العقوبة حتى تلامس حافة الإعدام.
ولم يكن هذا العقاب حكرًا على النشر العلني، بل امتدّ إلى النكات التي تُقال همسًا بين الأصدقاء. فإن بلغ صداها أذنًا مشكوكًا في ولائها، تهاوى من قالها ومن سمعها ومن سكت عنها في شبكة العقوبة. لم تسلم العائلات، ولم تنجُ القرابة الأولى، فصار الجميع مراقِبًا ومراقَبًا.
بلغ الأمر حد أن الأستاذ الجامعي بات يتفادى ضرب الأمثلة، خشية أن يُفهم أحدها على أنه مساس بمقام أو رمز. وتحوّلت القاعات الأكاديمية إلى ساحات صمت متحفّظ، لا يجرؤ أحد فيها على مخالفة رأي المسؤول الحزبي، حتى لو كان طالبًا صغيرًا. أما الآباء، فتعلموا ألّا ينتقدوا الدولة أمام أطفالهم، والوزراء تفادوا توجيه النقد، حتى حين تنهار الإدارة. والمواطنون، ابتلعوا آراءهم كما يُبتلع السم ببطء، لا عن قناعة، بل تقيّة.
بمرور الوقت، تشكّلت لدى غالبية العراقيين آلية دفاعية تُعرف بـ"الكف"، لكنها لم تعد فعلًا إراديًا، بل باتت استجابة لا واعية تنظم مخرجات الفكر وتضبط اللسان قبل أن يفلت. وكأن شرطيًا داخليًا يقف على أبواب الوعي، يمنع المكبوت من التسرب، ويُجهض الرغبة في التعبير قبل أن تتحوّل إلى كلمة أو فعل.
ومع اتساع هذه الظاهرة، أخذ الوعي الجمعي يفرز كوابحه تلقائيًا. صار المجتمع يدرّب ذاته على الصمت، على الطاعة الوقائية، على الرقابة الذاتية المشروطة بالخوف. حتى في القضايا العامة، بات الناس لا يعبّرون بتلقائية عما يشعرون به، خشية أن يتجاوزوا خطوطًا غير مرئية. هذا التراكم النفسي، المعبّأ بالمحرّمات والكوابيس والتجارب القاسية، غذّى تلك الرقابة الداخلية حتى أصبحت عرفًا نفسيًا وسلوكًا اجتماعيًا راسخًا، تمارسه الجماعة على نفسها، وعلى أفرادها، وتنتجه دون الحاجة إلى سلطة عليا تُجبرها عليه.
الأخطر من استمرار هذا السلوك، هو تحوّله إلى ما يشبه الغريزة الجماعية. شرطي أمن داخلي، نشأ في الأصل من الخوف، لم يَعُد مكتفيًا بمراقبة الذات، بل انقلب على الآخرين. بفعل التوجس المفرط، صار التربص سلوكًا يوميًا. والخيانة لم تعد حدثًا فعليًا، بل احتمالًا متخيّلًا يتعامل معه البعض كيقين. ولم يتردد كثيرون في الإيقاع بغيرهم لصالح سلطة لا يثقون بها أصلًا، في مفارقة عجيبة: المواطن يكره الدولة، لكنه يساهم في إدامة أدواتها القمعية داخله وفي مجتمعه.
هذه الحالة لم تبق حكرًا على عهد الاستبداد، بل امتدت إلى زمن ما بعده، بما في ذلك فضاءات التعبير الجديدة. فحين يكتب مواطن مقالًا ينتقد تدخل المرجعية الدينية في صياغة دستور الدولة متعددة الطوائف والقوميات مثلًا، يُهاجَم على نطاق واسع في المنصات الاجتماعية. حيث تُنهال عليه اتهامات التكفير والخيانة، ويتصدّى له "الشرطي الداخلي" المزروع في وعي المئات، وربما يتلقّى تهديدًا بالقتل. العنف، هنا، لم يعد صادرًا من الدولة، بل من المجتمع نفسه.
حتى المثقفون والكتّاب والأدباء لم ينجوا من رقابة هذا الشرطي، فقد تعرّض كثير منهم للتهديد أو الخطف أو الاغتيال، لا لشيء سوى لأنهم امتلكوا الجرأة على كسر المحظور أو مساءلة المقدّس. إنه شرطي حاضر في كل مكان، لا ينتمي لطائفة أو قومية. ففي المناطق السنية والشيعية والكردية، يتربص هذا الشرطي بالوعي، وينقضّ عليه ما إن يهمّ بالتعبير الحر.
لقد بلغ شرطي الوعي الداخلي مرحلة متقدمة من التشكل، تجاوز فيها حدود الفرد، ليتحوّل إلى بنية جماعية متأهبة، أشبه بشبكة عصبية نفسية نشطة، تتعامل مع أي تفكير مستقل كتهديد وجودي لنظام الجماعة الرمزي. لم يعد الرقيب محصورًا في الضمير الشخصي، بل تمدد إلى العائلة، والطائفة، والقومية، والحزب، والشارع، بل حتى إلى اللاوعي الجمعي.
ولعل أكثر تجلياته وضوحًا تظهر في ردود الأفعال الجماعية الصادمة: نقد حديثٍ ديني، أو زعيم سياسي، يُقابل بهجوم واسع، وكأن الجماعة قد نصّبت نفسها وصيًا على الفكر، وحددت سقفًا موحدًا للرأي لا يجوز تجاوزه.
إنه نوع من التوجس لم يُبقِ علاقات المكوّنات العراقية في منأى عن تأثيره. فبدل أن تشكّل الفيدرالية فرصة للتفاهم، تحوّلت إلى ساحة لإعادة إنتاج الحذر القديم. فالعرب، بوصفهم الأغلبية، ينظر بعضهم إلى الكورد والتركمان والأقليات بتربص، يكبّرون الأخطاء، ويحملون الآخرين مسؤولية الولاء. وفي المقابل، يحتفظ بعض الكورد بذاكرة ثقيلة من التهميش، تجعلهم يؤوّلون كل إشارة مركزية بوصفها مشروع قيد جديد. حتى حين يتولى أحدهم منصبًا، لا يُنتج ذلك ثقة، بل يعيد تفعيل الشك، وإن من موقع معكوس.
وهكذا، وبفعل تكرار هذه الآلية وتوارثها، تحوّل شرطي الوعي إلى بنية نفسية جماعية، تنتقل كما تنتقل اللغة واللهجة والانتماء. صار الأفراد يتحركون بحذر، يصغون بريبة، يراقبون بصمت. لا أحد يثق بالآخر، لا المكوّن بالمكوّن، ولا الفرد بالفرد. الكل يقف على أطراف أصابعه، خشية أن تزلّ منه كلمة تُفسَّر على أنها استهداف.
شرطي الأمن الداخلي، وقد خرج من جحر الذات إلى العلن، لم يعُد مجرّد حالة نفسية، بل تجلٍّ لحقبة طويلة من القهر، استوطنت العقل الجمعي وسكنت اللاوعي. خطورته أنه لا يموت بزوال النظام، بل يعيش ما بقيت التربية والمجتمع والسياسة تكرّس الخوف وتكافئ الصمت

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي