|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

سعد العبيدي
2025 / 5 / 12
في هذا البلد المثقل بالتجارب، لم يعد الخراب مقلقًا، ولا العبث يُقابل بالدهشة. في جمهوريته، لا أحد يغمض عينيه، فالجميع كما يقولون في المثل الشعبي (مفتحين باللبن) ومع هذا لا أحدًا يرى. صار إدراكهم فعلا مؤجلا الإدراك، والنظر فعلاً بلا أثر. إنه نوع من العمى النفسي، مدفوعٌ إليه من داخل المجتمع ذاته، ومن بعض خطابات السياسة والدين.
فالدين، حين جرى تسييسه، تجاوز حقيقة كونه وعيًا روحيًا، تحوّل إلى غطاء ناعم لكثير من عوامل التعمية السياسية. فبعض المنابر التابعة أو المدعومة راحت تُطمئن الناس بأن الصبر على الظلم "أجر"، وإجتناب الفتنة أولى من المطالبة بالحق، فصار الغضب في نفوس الكثير من أبناء الجمهورية قلة إيمان، والاحتجاج تشكيكًا في الأقدار. هكذا، جرى تحوير بعض المفاهيم الدينية سياسيًا لتخدير الإدراك، وهكذا استجاب الناس لها في تفسير الزلل كابتلاء، لا كخلل، والمرور على الفساد كالمرور على قَدَرٍ مكتوب.
في هذه الجمهورية، صار التغاضي قوة، وآلية دفاع، وأحيانًا شريعة يومية. لا أحد ينكر أن العيون ترى، لكن من يتكلم يُتّهم بالتهويل، ومن يعترض يُستدعى للصبر. وفي كل دورة انتخابية، يُشتم من فشل، ويُعاد شتمه من جديد بعد التجديد له، وكأن الإدراك قد أصيب بالوهن.
هنا تبدأ حكاية التغاضي أو التعمية، لا عن فقد البصر، بل عن الإنهاك الذي جعل الناس يتقنون فنّ النظر دون أن يروا، والسير دون أن يدركوا المسار. هنا في "جمهورية التغاضي"، كان الدين السياسي أحد العوامل التي ساهمت، عن قصد أو عن إلفة، في تطبيع النظر إلى الفساد من دون امتعاض. سلوكٌ تشكّل عبر الزمن، عبر بعض الخطب، وتفسيرات السرد، وتعاليم التهوين التي صارت تسلك أقصر طريق إلى الضمير: “اصبر، لا تخرج، لا تكن سببًا في فتنة، لا تُسئ الظن، هذه دنيا، والجزاء في الآخرة”. وكأن الخطاب قد تمت قولبته بما يخدم البقاء، لا التغيير، فصارت المناشدة بالتغيير مرادفًا للمروق، وأعيد توظيف قصة الحسين (ع) لتبرير الصمت لا لإصلاح الخطأ، وصار الفساد حديث المجالس لا منابر الحساب، والأخطاء تُدفن بفتوى تهدئة، لا بتوجهات احتجاج.
وتحت هذا الغطاء في هذه الجمهورية، تمدّد التغاضي حتى عمّ تفاصيل الحياة:
لم يعد أحد يعترض على التجاوزات إلا القلّة، لأن “الناس تخشى الفتنة، وكلٌّ له حسابه عند الله”. لم يُسائل المجتمع أحزابه، ولم يستفسر عن اختفاء مشروع، أو تحوّل شارع إلى حظيرة، لأن المفسرون جعلوه يسلّم بأن "الساكت عن الحق قد يكون حكيمًا، لا شيطانًا أخرس".
وفي هذه الجمهورية تماهى الدين مع السلطة، عبر خطاب يخلط بين الدعوة للطاعة والسكوت عن الخلل. فكانت بعض الفتاوى لا تقف مع الناس بل مع "الاستقرار"، حتى لو كان مشوَّهًا. فالاستقرار، كما قُدِّم، أفضل من المجهول، والمعارضة تُشبه الخروج، والشكوى ضربٌ من قلة الرضا بالقسمة.
هكذا في هذه الجمهورية، لم يُنجَ الدين السياسي من لعبة التغاضي، بل صار، حين لُيّن ووُجِّه، أداة إضافية لصرف الأنظار. وبهذا، اكتمل مثلث التغاضي: سلطة لا ترى الخلل. مجتمع مرهق لا يريد أن يراه. ودين في بعض خطابه يطلب ألّا يراه. وبهذا أضحت "العمية" نفسية، اجتماعية، وروحانية أحيانًا. وشيئًا فشيئًا، صارت استراتيجية بقاء، وليست ردود فعل طبيعية للحياة.
حين يصير التغاضي أسلوب حياة
تحت سطوة هذا النمط الطويل من التغاضي، لم يعد المواطن هو الضحية، بات ومن حيث لا يدري شريكًا في صناعة التغاضي، يفضّل الصمت على الانشغال، وتجنب السؤال كي لا يسمع الجواب، وآمن بالتغاضي لباقة اجتماعية، وفنّ من فنون النجاة.
في الشارع، حين يُقطع التيار الكهربائي لساعات طويلة في ذروة الصيف اللاهب، لا يخرج أحد ليسأل لماذا، بل يتوجهون الى أصحاب المولدات ويستدينون لدفع أجورها، ثم يعودون للصمت. في الدوائر الحكومية، حين يُطلب من المراجع "ورقة مقابل تسهيل" لا يحتج، بل يهمس: "حمدً لله"، ويمضي. حتى حين يرى رصيف شارعه يرصف فوق الوحل، ثم يُهدم بعد أشهر ليُعاد رصفه بعقد جديد، عندها يكتفي بهز رأسه وإطلاق نكتة تُضحك الواقفين وتُنسيهم فداحة المهزلة. في المدارس، صارت الدروس الخصوصية من معلميها شيئًا معتادًا، والطلبة يتعلمون كيف لا يتعلمون. وفي المستشفيات، يموت المرضى أحيانًا من الإهمال أو الدواء الفاسد، لكن أهلهم يقولون: " جاء أجلهم". هكذا تسلل التغاضي إلى الوعي، ليصير سترًا للكارثة، بدلاً من أن يكون دافعًا لرفضها. في ظله صار هنالك نوع من الاتفاق غير المكتوب: لا أحد يُحرج أحدًا بالأسئلة: المدير لا يسأل الموظف عن تأخره لأنه يهرب من أسئلة أكبر، والموظف لا يطالب بحقوقه كي لا يُنقل، والمواطن لا يُراجع البلدية كي لا يندم، والبلدية لا تفتح ملف التجاوزات لأن السياسي قد يُحرج. الكل يرى، لكنهم جميعًا في وضع السكوت. وكأنهم في جمهوريتنا عقدوا هدنة عنوانها: "دع كل شيء يمر".وحين تقع الفواجع الكبرى، يُبنى المآل على ذات البنية النفسية للتغاضي:
انفجار في سوق؟ بلاء ونحتسب. انهيار مبنى؟ قضاء وقدر. تسريب أسئلة الامتحانات؟ تآمر لتجهيل المجتمع. لا أحد يحمّل مسؤولًا مسؤوليته، لأن تحميل المسؤولية صار مرادفًا للتطاول الممنوع عشائريًا. وفي نهاية المطاف، أنتج هذا المناخ شعبًا يمارس الحياة بتوجس، لا بثقة. يراقب ما يجري حوله كما يراقب زجاج نافذة لا يريد تنظيفها: يرى كل شيء مغبر، لكنه لا يمد يده لمسحه. فالرؤية الواضحة قد تعني وجوب الفعل، والفعل يعني التورط، والتورط في جمهورية التغاضي مغامرة لا يحبذها أحد. وهكذا، أصبح التغاضي حالة مزمنة: بلد يُدار بالارتجال، ومجتمع يُسير بالتجاهل، وأمل يُؤجل كلما اقترب. وبين هذا وذاك، تتوارث الأجيال مهارة التغاضي بوصفها حيلة للسلامة، جعلت النظرة الى الخلل أمرًا يتم التأقلم معه بدلًا من أن يُصلح، مثل ثقب في جدار متهرئ تُعلق فوقه صورة لملكة جمال.
.....
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |