الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب

ضحى عبدالرؤوف المل
2025 / 4 / 16

يتنقل الشاعر نزار دندش بين الشعر والرواية كما لو أنه يحفر في أعماق التاريخ الأدبي، بينما يتنفس الحياة اليومية ويحاول الوصول إلى قلب الإنسان المعاصر. في حوار خاص معه ، تكشف إجابات دندش عن رؤيته العميقة والمتجددة للأدب، وهو يربط بين الشعر والواقع الاجتماعي والنفسي في تناغم يتسم بالجمال والرصانة الفكرية. يتضح من خلال حديثه أنه لا يقتصر على كونه شاعرًا فحسب، بل هو مفكر في أدبياته، وفنان في التعبير، ما يعكس رؤية ثقافية عميقة لا تخلو من الإشكاليات والتحديات التي يواجهها الأدب في العصر الحديث. فهل يعتبر الشعر فعل تشاركي؟

أول ما يلفت الانتباه في حديث معه نزار دندش هو تصوره الخاص للشعر كفعل تشاركي بين الشاعر والقارئ. يعتبر دندش أن القصيدة ليست مجرد كلمات موزونة تنظم في قالب لغوي بل هي تجربة وجدانية وعقلية تتفاعل مع القارئ على مستويات متعددة. لا يرى الشاعر أن القصيدة تكتسب قيمتها فقط من خلال موهبة الشاعر في التعبير، بل من خلال استجابة القارئ لها، وهو ما يضفي عليها بعدًا إبداعيًا مشتركًا. في هذا السياق، يمكن القول إن دندش يقدم تصوره للشعر ليس كإنتاج فردي فحسب، بل كعملية تواصلية بين الكلمة والروح، وهو ما يعكس مرونة الشعر وتكيفه مع الأزمان والأماكن.

بالنظر إلى أن الشعر هو في جوهره موسيقى للروح، فإن هذه الفكرة لا تقتصر فقط على القصيدة الموزونة بل تتسع لتشمل الأشكال الشعرية المختلفة. من هنا، يظهر أن دندش ليس مُلتزمًا بنمط شعري معين، بل يراهن على الموسيقى الداخلية للكلمات، ويرى أن الموهبة الحقيقية تكمن في كيفية تفاعل الكلمة مع إحساس الشاعر والمستقبل على حد سواء. قصيدته، كما يشير في حواره، هي محاكاة لحالة وجدانية معقدة، تضع القارئ في مواجهة مع نفسه.

ما يميز الشعر عند نزار دندش هو ارتباطه الوثيق بالموسيقى، وهو ما يعد أحد أهم أبعاد رؤيته الفنية للشعر. "الشعر موسيقى وكلمات"، يقول دندش، حيث لا تقتصر القصيدة على كونها مجموعة من الألفاظ التي تنطوي على معانٍ عميقة فحسب، بل هي أيضًا عبارة عن أنغام تنبض بالحياة، وتعيش في الذاكرة بفضل إيقاعها المتناغم. يتجسد هذا بشكل واضح في اهتمامه بالأوزان الشعرية، حيث يعامل البحر الشعري كـ"نوتة موسيقية" لها أثر واضح على القارئ والمستمع. يضيف إلى ذلك أن كل بحر شعري له موسيقاه الخاصة، تتناغم مع حالة الشاعر النفسية وتفضيلاته الإبداعية. لهذا، فإن الشاعر الماهر هو من يستطيع أن يجد التوازن بين الكلمة والموسيقى، وبالتالي بين العقل والعاطفة.

هذه الرؤية للموسيقى الشعرية لا تقتصر على الأوزان التقليدية فقط، بل تشمل أيضًا الشعر الحر والنثر، ما يدل على أن دندش يحرص على تعدد الأشكال الشعرية وتنوع أساليب التعبير. فهو لا يقتصر على الشعر الموزون، ولكنه يعتنق الجمالية الموسيقية للكلمات بشكل عام، بغض النظر عن قالبها الشعري. فهل الشعر الكلاسيكي والحداثة: معركة أم تكامل؟

إحدى الإشكاليات التي تطرق إليها نزار دندش في حواره كانت معركة الشعر التقليدي والشعر الحداثي. يتضح من حديثه أنه لا يرى ضرورة للخصام بين المدرسة الكلاسيكية ومدارس الشعر الحديثة، بل يعتقد أن لكل منهما قيمته ومكانته. في هذا الصدد، يعبر دندش عن إعجابه الكبير بالشعر الكلاسيكي العربي، خاصة شعر المتنبي وأحمد شوقي والأخطل الصغير، الذين أثروا في ذائقته الشعرية. ومع ذلك، فهو يؤمن بأن الشعر الحداثي له أيضًا قيمته الخاصة، شريطة أن يكون قائمًا على جمالية اللغة والموسيقى الداخلية، لا على هدم الأشكال القديمة لأغراض تجريبية قد تفرغ الشعر من جوهره.
يرفض دندش "الحداثة" الشكلية التي تسعى إلى تحطيم القوالب التقليدية دون مبرر فني قوي. وبدلاً من ذلك، يدعو إلى خلق شعر عصري يعبر عن العصر الجديد مع الحفاظ على جوهر الشعر العربي من حيث جمال اللغة وعمق المعنى. هو يؤمن بأن الشعر هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من فهم الذات الإنسانية بكل تعقيداتها، وأنه يجب أن يكون مرآة للعواطف والأفكار في وقت واحد فهل الرواية بالنسبة له انعكاس للواقع الاجتماعي والنفسي؟


الانتقال إلى العمل الروائي بالنسبة لنزار دندش ليس سوى امتداد طبيعي لاهتمامه العميق بعالم الأدب. يعتقد دندش أن الرواية تمثل انعكاسًا أوسع للعالم مقارنة بالشعر، فهي لا تقتصر على الذات الفردية كما في الشعر، بل تتسع لتشمل كل أبعاد الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. في الرواية، يرى دندش أن الكاتب يستطيع أن يعكس الواقع الموضوعي والمجتمعي، وأنه في هذا السياق يصبح الكاتب بمثابة "مصور" و"مهندس ديكور" لحياة أبطاله.


الرواية، كما يرى دندش، تتطلب من الكاتب فكرًا أكثر شمولًا وواقعية. فهي ليست مجرد قصة أو حدث، بل هي حوار مع الحياة نفسها، محاولة لفهم انعكاساتها في ذهن الكاتب ووعيه الاجتماعي. لذلك، يرفض دندش فصل الأدب عن الواقع، ويرى أن دور الروائي يتعدى السرد، ليشمل نقد الواقع ومحاولة تجسيد رؤى جديدة.
في إجابة على تساؤل حول تطور الأدب في الزمن المعاصر، يثير نزار دندش نقطة مهمة تتعلق بتراجع تأثير الكتاب الورقي في العصر الرقمي. فهو يرى أن التحولات في تكنولوجيا القراءة قد تؤثر بشكل ما على الكتاب الأدبي، وخاصة الشعر، الذي يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بجمالية الكلمة المكتوبة. في هذا الصدد، يظهر توازن دندش بين تقديره للتقاليد الأدبية واحترامه للتطورات الحديثة في مجال القراءة والنشر.

ومع ذلك، لا يتوقف دندش عند هذه التحولات، بل ينظر إلى الأدب كجزء من معركة ثقافية مستمرة. في رأيه، الكتابة الجيدة تظل قادرة على التغلب على الزمن. وإذا كانت الأشعار الجاهلية قد بقيت خالدة إلى اليوم، فلا يمكن لأدب اليوم أن يحقق الخلود إذا اقتصرت رؤيته على حدود زمانه.
في النهاية، يمكن القول إن نزار دندش يعكس في رؤيته الأدبية حياة غنية ومتنوعة، تحتضن الشعر والرواية معًا. هو لا يرى الأدب مجرد أداة تعبير عن الذات، بل هو رسالة تنقل الإنسان إلى أفق أوسع، يعكس التاريخ والمجتمع والتجربة الإنسانية. في كل كلمة من كلماته، يحاول أن يعكس جمالًا مفقودًا، أو يحاكي ألمًا مستمرًا، أو يخلق لحظة من التوازن بين العقل والعاطفة. وبذلك، يبقى الأدب في نظره، كما في نظرنا، مرآة حية للإنسان، وساحة صراع بين الموروث والحداثة، وبين التجربة الفردية والواقع الاجتماعي.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي