![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
فاطمة ناعوت
2025 / 4 / 16
Facebook: @NaootOfficial
مثلما النخلةُ لا تُثمر إلا إذا عانقتِ الشمسَ، كذلك القلبُ لا يُورق إلا إذا مسّته خُضرةُ السلام وأكسجينُ الحبّ. أكتبُ لكم هذا المقال بعدما انتهيتُ من جدل بعض الأشكال الجميلة مع ابني "عمر" من سعف النخيل مع صديقاتي المسيحيات وأطفالهم؛ احتفالا بـ”أحد السعف” بالأمس. عيدٌ يعيدُ إلينا طفولتَنا، ويعيدُنا إلى براءتها. يأتي ذلك "الأحدُ" بلطفٍ أخضرَ، لا يطرقُ البابَ، ولا يُحدث جلبةً، لكنه يملأ الشوارع بوهج الذهب، وضحكات أطفالٍ يحملون السعف بأكفّهم الصغيرة، كأنما يقبضون على حفنة فرح. طقسٌ يحمل رائحة الطين، وهمسات الجدّات في باحات البيوت. في طفولتنا، كنّا نشتري عيدان السعف من الباعة حول المدرسة، ونتسابق في جدلها لنصنع أشكالا جميلة، ونظلُّ نرقبُها حتى تجفَّ ويتحوّلُ أخضرُها إلى أصفر الذهبِ يُشِعُّ بريقُه في قلوبنا الخضراء. نُهدي صنعةَ يدينا إلى أمهاتنا ومعلّماتنا: تاجٌ، سوارٌ، خاتمٌ، كتابٌ، أوراق شجر، قلبٌ، حملٌ، سنبلة قمح….. كنتُ، ومازلتُ، أراه خيطًا سريًا بيني وبين الأرض. جديلة سلام، نُشكّلها بأنامل بريئة، ثم نعلّقها على الأبواب أو نهديها لمن نحب، كأننا نجدل مشاعرنا بخيوط النخيل. ومهما كبرنا وكبرت همومنا وتشعبت مشاغلنا، إلا أنني أتوق لجدل السعف، كأنما ورثت هذا الطقس عن جدّات قديمات لا أعرف أسماءهن، لكنني أعرف أنهن جدلن السعف في باحات البيوت، وأضفن إلى عيد الشعانين نكهة مصرية بطعم النيل ورائحة الطمي وطعم الخُضرة. هذا هو الوطن وفلسفته: نحتفل معًا، ونُحب معًا، ونُشكّل من سعفةٍ صغيرة إعلانًا ناعمًا أن مصر بخير.
“المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة". سعفُ النخيل ليس رمزًا دينيًا فقط، بل مفردةٌ في معجم مصر. مَن يتأمل نقوش المعابد القديمة يرى النخلة مُقدّسة في حضارتنا، رشيقةً وكريمة، تعطي ولا تأخذ. لهذا أحبها الجدُّ المصري وتبارك بها. في النخيل شيءٌ يُشبهنا: صبرٌ مُتعالٍ، وجذرٌ لا يتخلى عن الأرض.
"أحد السعف"، هو "الأحد" السابقُ لعيد القيامة المجيد. اليوم الذي دخل فيه السيدُ المسيح مدينةَ "القدس"، فاستقبله أهلُها بالأناشيد وأغصان الزيتون، وفرشوا ثيابَهم تحت قدميه الشريفتين ليسير عليها مُكلّلاً بالمحبة والنصر، كما يليق برسول السلام الذي جاء ليعلّم البشرَ كيف يغفرون للمُسيء ويُحبّون العدوَّ، وإن آذاهم، فيتضامنون معه ضدّ عدو البشرية الأوحد: الشرّ.
في مصر، يغدو العيدُ مناسبة وطنية تحتفي بالحياة. النخيلُ في الوجدان المصري رمزٌ للخلود والوفرة، فظهرت في النقوش الفرعونية والجداريات. وبعد دخول المسيحية ثم الإسلام، ظلّت النخلةُ في مخيالنا الشعبي رمزًا للطمأنينة والجمال. وهكذا، فحين يحمل المصري سعفة مُضفّرة، فإنه يُحيي تقليدًا ضاربًا في جذور التاريخ، يربط النخلة بالسلام، ويُحوّل السعف إلى رسالة حب، تختصر جوهر الأديان في كلمة واحدة: السلام. فالمصريون بطبعهم يحبون المناسبات التي تحمل طابعًا بصريًا ملموسًا. والسعف، بخضرته، وجدائله، وجمال رمزيّته، يجعل العيد “مرئيًّا” حتى لمن لا يعرف أصل قصته وفلسفته.
أصدقاؤنا المسيحيون يصومون خمسة وخمسين يومًا حتى عشية "عيد القيامة المجيد” الأحد القادم. يرفعون أياديهم للسماء ضارعين بالدعاء لكي يحمي اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ، مثلما ندعو لها في صلواتنا وتهجّدنا. يدعون أن يعُمَّ الخيرُ جميعَ البشر، ثم يدعون بالغفران لمن أساء إليهم، بالقول أو بالفعل، لأنهم موقنون أن غفرانهم للمسيء شرطٌ لغفران الله للبشر: "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، يقولونها وهم يتذكرون السيدَ المسيح عليه السلام، سائرًا على طريق الآلام رافعَ الرأس عزيزَ النفس، من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، في مثل هذا الأسبوع منذ ألفي عام، حاملاً صليبَه الخشبيَّ الهائل، وحاملاً آلامَه وجراحه ودماءه الطاهرة ورجاءه في خلاص البشر من شرور العالم، واضعًا إكليلَ الشوك على جبينه الوضيء النقيّ من الدنس، يقطرُ منه الدمُ الشريف. وحين ظمِأ، قدّم له جندُ اليهود والرومان كأس الخلّ كي تخفَّ آلامه قليلا، لكنه رفض أن يرتشفه لكي يتجرّعَ الألمَ إلى مُنتهاه، لقاءَ قوله الحقَّ في وجه سلطان جائر. ثم قام المسيحُ بمواساة المريمات وصبايا أورشليم اللواتي كنّ ينتحبن من أجل آلامه، طالبًا إليهن أن يبكين على أنفسهن لا عليه.
مصرُ التي تجدل السعف كل عام، لا تعرف الكراهية. مصرُ التي تُضفّر من ورق النخيل ورودًا وسلالاً، قادرة على أن تصنع من آلامها أملًا، ومن أزماتها سلامًا، ومن اختلافاتها تنوّعًا أنيقًا لا يُقصى. إنها مصر. تمرُّ عليها مواسمُ من الجفاف، لكنها تعرفُ جيدًا كيف تدوس على المحن وتعود فتورق، وتُثمر، وتُدهش العالم بتماسكها وقوتها وحبها للحياة. كل عام ومصرُ جميلةٌ بشعبها، وصومًا مقبولا لأشقائنا المسحيين، الذين يستقبلون أسبوعَ الآلام استعدادًا لعيد القيامة المجيد، كل عام وهم نخلةُ المحبة المورقة في أرض مصر.
***
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |