جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع بعد المائة)

أحمد رباص
2025 / 4 / 15

هنا نحن مرة أخرى أمام صيغة من النوع الذي يتعلق بـ "أنا التي هي نحن" و"نحن التي هي أنا": يتعلق الأمر الآن بشيء أو شأن لا يمكن أن يكون إلا نتاج عمل هو عمل الجميع بقدر ما هو عمل كل واحد منهم. إن الشيء أو الشأن من هذا النوع لا يمكن أن يكون، وفقا لهيجل، إلا شيئا أو شأنا من النوع الروحي، أي أنه يتوقف على حقيقة الاعتراف المزدوج، أي على أشكال الوعي التي تعترف كلها بذاتها من خلال الاعتراف المتبادل بين بعضها البعض. إن اشكال الوعي التي تدرك ذاتها باعتبارها تدرك ذاتها هي وحدها القادرة على الانخراط في العمل التعاوني، أي العمل الاجتماعي الحقيقي، المكون من الجزء غير القابل للاختزال من عمل كل فرد إلى عمل الجميع: ومن خلال هذا العمل، تكتسب أشكال الوعي القدرة على الوصول إلى ما يسميه هيجل "الشيء ذاته" باعتباره "عملا بلجميع ولكل واحد"، الشيء ذاته الذي قال عنه هيجل "هذا هو الجوهر الذي هو جوهر كل الجواهر، الجوهر الروحي" (498/227). هذا "الجوهر الروحي" أو الشيء ذاته لم يعد هنا أي شيء خارجي الأشكال الفردية للوعي: هذا هو السبب في أن "الشيء ذاته يفقد العلاقة بالمستد وتحديد الكونية المجردة بدون حياة" (498/228). لم يعد مسندا خارجيا لأشكال الوعي، "بل هو المادة المخترقة من قبل الفردية؛ إنه الذات التي تكون فيها الفردية كما هي في ذاتها أو كما هي هذه الفردية-هنا وأيضا كما هي جميع الأفراد". (498/228)
مع هذا الحفاظ على كل فردية مفردة في ذات التعريف لكل منها بالكل الذي تشكله معا، فإننا نكون في حضور ما لا يقل عن "أسمى المفاهيم"، وفقا لتعبير المقدمة، أي مفهوم "الجوهر الذي هو ذات أساسية" أو "المطلق باعتباره روحا" (98/22). إن الجوهر هنا هو الروح حقا لأنها عمل كل فرد، أي نتاج عمل ليس مجرد إضافة لأفعال فردية، وليس مجرد تنسيق خارجي بين هذه الأفعال، بل تعاونها الفعال - التعاون الذي يشير إلى عمل جماعي بحيث يتم تنفيذه بوعي من قبل كل شخص كعمل جماعي، وفي شكل العمل الفردي لكل شخص كمساهمة غير قابلة للاختزال ولا يمكن استبدالها ومكملة لجميع الآخرين في العمل الجماعي.
لكن يمكن ملاحظة تغيير في ما يتصل بتحليل "سيادة الأخلاق" الموجود في بداية القسم (ب) ("التحقيق الفعال للوعي الذاتي العقلاني في ذاته") من الفصل الخامس في المقطع الذي انتهى بالصيغة "هم مثلي، وأنا مثلهم" (435، ترجمة معدلة/195). ذلك لأنه في النص الذي قمنا بتحليله للتو، لم يعد الجوهر الروحي هو ذات الحركة، ولم تعد "نحن" هي الاي تتشتت إلى تعددية من اشكال "أنا" مفردة، ولم تعد "هم" الجماعية هي التي تنفجر في تعددية من اشكال مفردة. من الآن، يالعكس، يكون الجوهر الروحي ناتجا عن العمل التعاوني لأشكال "أنا" مفردة، وهذا العمل التعاوني هو في حد ذاته ذات حركة اتحاد أشكال الـ "أنا" في كل يعيش من تنوع مساهمات كل واحد منها. هنا، كما يقول هيجل صراحة، "الجوهر هو الذات التي [...] يكون فيها الكوني، الذي هو كائن فقط باعتباره هذا الفعل للجميع وكل واحد، فعالية" (498/228). إن الكوني لا يوجد إلا كمنتج ونتيجة لفعل الجميع وكل واحد: لم يعد الكوني هنا تلك الحالة التي لا توجد إلا لإعادة إرجاع وتوجيه إلى ذاتها الأفعال الفردية للذات التي تطالبها بالتضحية بها. لا مزيد من التضحية هنا: من دون التخلي بأي شكل من الأشكال عن ذواتها، فإن أشكال "أنا" المفردة تعمل نحو الكون، وهي على دراية بعملها المفرد بالإضافة إلى المساهمة المفردة التي تجلبها كل واحدة منها بوعي إلى العمل المشترك. وإذا كان لا بد من وجود تضحية هنا، بطريقة ما، فإنها لن تكون تضحية أشكال "أنا" المفردة، بل على العكس من ذلك، تضحية الجوهر الروحي نفسه: فهو الذي يضحي بوحدته المباشرة من أجل مصلحة وفائدة عمل اشكال "أنا" المفردة من أجل استعادتها من خلالهل كنتيجة "لعمل الجميع وكل واحد".
ذلك ما يتضح في الصفحات الأولى من الفصل السادس ("الروح") حيث يتناول هيجل على الفور الصيغة التي تقول إن الروح هي هذا الجوهر الذي "هو العمل الكوني الذي يتولد عن طريق عمل الجميع وكل واحد منهم، كما هو وحدتهم ومساواتهم" (518-519/239). "من المؤكد أن الروح هي الأساس الثابت وغير المتحلل ونقطة الانطلاق لعمل الجميع" (518/239)، وبالتالي فهي بهذا المعنى افتراض عمل اشكال "أنا" المفردة، الأساس الذي يمكن لعملها أن ينكشف من خلاله - ولكن، بصفتها كذلك، كأساس ونقطة انطلاق بسيطة، فإن هذا الأساس ما يزال لا يحتوي على أي شيء روحي بحت. لا يصبح حقا جوهرا روحيا إلا عندما يكون، بالإضافة إلى كونه أساس تصرفات كل فرد، "هدفهم والغاية التي يسعون إليها، باعتباره الشيء في ذاته المفكر فيه لجميع أشكال الوعي الذاتي" (نفس المصدر). ثم يصبح الجوهر روحا، أي "فعالية أخلاقية"، من حيث أنها " العمل الكوني" الذي يتم إنتاجه وتوليده على هذا النحو "بواسطة عمل الجميع وكل واحد". وهذا يعني أن الجوهر لا يمكن أن يكون روحانيا إذا لم يمر عبر فعل كل واحد منهم، وبالتالي إذا لم يتولد كونيا في تعدد الأفعال الفردية وبواسطتها، حيث يدرك كل منها نفسه كجزء مأخوذ من الكل، وفي هذه الحالة كجزء غير قابل للاختزال ومكمل لجميع الأجزاء الأخرى.
هذا هو في الواقع التغيير الأكثر أهمية مقارنة بالأحداث السابقة التي شهدها الجوهر الروحي، وخاصة مقارنة بالجوهر الأخلاقي أو "حياة الناس"، وهو بالتأكيد إنجاز التحليل المخصص للشيء نفسه. لم تعد أشكال "أنا" المفردة هي التي يجب أن تضحي بنفسها للوصول إلى الحياة الروحية لـ"نحن"، بل على العكس من ذلك، فإن الجوهر هو الذي يجب أن يضحي بنفسه من أجل مصلحة "أنا" (بالجمع) من أجل أن يصبح جوهرا روحيا حقيقيا: "الجوهر، كما كتب هيجل، هو الجوهر الذي يضحي بنفسه لطيبوبته، والذي فيه ينجز كل شخص عمله الخاص، ويمزق الكائن الكوني ويأخذ منه نصيبه لحسابه" (519/239). يصبح من الضروري بالنسبة للجوهر أو "نحن" أن يسمح لكل "أنا" بإنجاز الجزء الخاص بها من العمل المشترك: وهذا يعني أن الجوهر لن يكون روحيا، أو، ما يماثل نفس الشيء، ذاتا إذا لم يسمح لأشكال"أنا" أو الأفراد الخواص داخله بأن يجعلوا منه ثمرة تعاونهم الخاص. يجب علينا إذن أن نمر بما يسميه هيجل "التحلل والتفرد المجزئ للجوهر" (المصدر نفسه)، أي من خلال العملية التي تعهد إلى كل فرد مفرد بجزء من تحقيق الكل، وهو جزء مفرد وغير قابل للاختزال ومكمل لجميع الأجزاء الفردية الأخرى في نفس الوقت.
نرى أنه في الوقت نفسه نحصل على فهم لما هو الجوهر الروحي وفقا لهيجل: فهو يتوقف على تعاون الأفراد، مع العلم أن هذا التعاون ليس تنسيقا بسيطا يتكون من أفراد يتكيفون مع سلوك وتوقعات بعضهم البعض. إن التعاون لا يعني تكيف أحد مع الآخر، بل يعني مساهمة كل فرد: كل شخص هنا يقدم مساهمة يعرف أنها فردية، فريدة، لا يمكن اختزالها، ولكنها أيضا مكملة للمساهمات التي قدمها الآخرون، وهو ما يفترض أن كل شخص يعترف بمساهمة الآخرين باعتبارها غير قابلة للاختزال وإيجابية (هنا يكمن على وجه التحديد ما يسميه هيجل "الاعتراف المزدوج"). إن هذا التعاون باعتباره ممارسة فعالة (في اختلافه عن التنسيق بين الأشخاص) يتم بالتأكيد في كل مرة على خلفية شكل مسبق ومفترض ومستقبل من طرف المجتمع، ولكنه سيظل حقيقة ميتة إذا لم يتم إحياؤه وإعادة تأسيسه من خلال التنفيذ الفعال للتعاون، وإذا لم يخضع لعملية ما يسميه هيجل "التفرد المجزئ للجوهر".
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42201

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي