من أجل واقع أقل وحشية

خالد علي سليفاني
2025 / 4 / 15

في عالم تتزاحم فيه الأصوات، وتتصارع فيه الأيديولوجيات، لا يزال الإنسان في كثير من المجتمعات حبيسًا لمنظومات فكرية تُقيّده أكثر مما تحرره. وبين شعارات التغيير التي ترفعها النُخب، والتقاليد التي تُمسك بتلابيب الوعي الشعبي، تضيع الأسئلة الكبرى: من أين نبدأ؟ وكيف نبني مجتمعًا أكثرعدالة؟
في هذا المقال، أتأمل في جذور الوحشية الكامنة في البُنى الثقافية والاجتماعية، داعيًا إلى ثورة هادئة تبدأ من الفرد، من الداخل، من إعادة تعريف العلاقة مع الفكر، والتاريخ، والدين، والتعليم.

لم يشهد التاريخ البشري في يوم من الأيام لحظة مثالية تحقق فيها العدل المطلق، ولا زمنًا ساد فيه السلام التام، وتساوت فيه الحقوق، وتحققت فيه الكرامة للجميع دون استثناء. لم تكن المدينة الفاضلة أكثر من أسطورة تُنسَج في أذهان الحالمين، أما الواقع فلطالما كان ساحة لصراع المصالح واقتتال بين الصالح والطالح، ومرآة لعقل الإنسان بكل ما فيه من أنانية وارتباك وجهل.

لكن الإقرار بهذه الحقيقة لا يعني التسليم للقبح أو الانغماس في اليأس. بل إنه دعوة حقيقية لتقليص مساحة الوحشية، وجعل الحياة أكثر إنسانية وإنصافًا. ذلك لا يتم عبر تغيير الأنظمة وحدها، بل يبدأ من الإنسان ذاته: أن نُعيد بناء الفرد من الداخل، أن نجعل منه كائنًا واعيًا، مدركًا لحقوقه وواجباته، متحررًا من الأوهام، ومتمكنًا من أدوات التفكير النقدي.

إن الأمم لا تنهض بالبرامج والخطط وحدها، بل تنهض حين يفكر أفرادها بحرية، حين يواجهون بروح التمدن ويشّكون بجرأة، ويحاسبون أنفسهم ومجتمعاتهم بضمير. فالعقل الذي يُستعبد بالأفكار الموروثة دون تمحيص، عقلٌ قابل لأن يُقاد، وأن يكون أداةً في يد غيره.

إن المدرسة التي لا تعلّم الطالب كيف يُفكّر، بل تُملي عليه ما يفكّر به، تخلق جيلاً يُقاد ولا يقود، يُطيع ولا يناقش، يتّبع ولا يبتكر. والمنبر الذي يُعلّم الناس الطاعة العمياء باسم الدين، يزرع فيهم الخوف بدل الإيمان، والعبودية بدل التحرر. والمجتمع الذي يُكرّم الخضوع باسم التقاليد، يُنتج أفرادًا بلا إرادة، ولا قدرة على الحلم أو النهضة.

ولهذا فإن مسؤوليتنا غير محصورة في نقد الواقع، بل في نقد الأدوات الفكرية التي أنتجت هذا الواقع. يبدأ كل تغيير من سؤال بسيط: "لماذا أفكّر بهذه الطريقة؟". من هنا تبدأ الشرارة، ومنها ينطلق الوعي.

نحن لا نحتاج إلى أحلام مثالية لا تتحقق، بل إلى وعي حقيقي بالواقع، وعقول تتعامل معه بنزاهة وحرية. نحتاج إلى أناس يُدركون أن الرجوع إلى الوراء ليس فضيلة، وأن عبادة الماضي لا تصنع مستقبلًا. نحن نحتاج إلى تعليم لا يلقّن، بل يُحرّر... إلى خطاب ديني يُحيي الضمير بدل أن يُخدره... إلى فكر سياسي يرى المواطن لا الرعية.

حين نصنع فردًا واعيًا، نضع اللبنة الأولى في بناء مجتمع عادل؛ فالمجتمع الحقيقي لا يُقاس بما يرفعه من شعارات، بل بما يزرعه من وعي، وما يحرّره من عقول... ما نطمح إليه ليس عالماً مثالياً، بل إنسانًا أفضل في عالم أقل قبحًا.
وبهذا فقط يمكننا أن ننتقل من مهزلة العقل البشري… إلى نهضته.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي