|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

ثائر ابو رغيف
2025 / 3 / 28
شكَّلت الفلسفة اليونانية، وخاصة أفكار أفلاطون وأرسطو، حجر الأساس للفكر الفلسفي الإسلامي خلال العصر الذهبي للحضارة العربية. ومن أبرز من تأثروا بها الفيلسوف أبو نصر الفارابي (874–950 م)، الذي قدَّم تصورًا لـ"المدينة الفاضلة" يُعتبر – في نظر معظم النقاد – إعادة إنتاج لـ"جمهورية" أفلاطون. لكن هل يُمكن وصف هذا التأثر بالسرقة؟ أم أن الفارابي طوَّر الأفكار الأفلاطونية ضمن سياقه الثقافي والديني؟ هذا المقال يناقش هذه الإشكالية عبر تحليل أوجه التشابه والاختلاف بين النموذجين. في العصر العباسي، كان تبنّي الفلسفة اليونانية وإعادة صياغتها ممارسة مُشَرعَنة، بل ومُشجَّعة، كجزء من مشروع "استنارة" إسلامي فلم يكن الفلاسفة المسلمون يخفون تأثرهم بأعمال فلاسفة اليونان، بل كانوا يصرحون بذلك، كما في مقدمة كتاب الفارابي "الجمع بين رأيي الحكيمين" (أفلاطون وأرسطو).
تعتبر كل من "جمهورية" أفلاطون (427–347 ق.م) و"آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي (872–950 م) من الأعمال الفلسفية المؤسِّسة لفكرة الدولة المثالية في التراثين الغربي والإسلامي. رغم التشابه في الرؤية القائمة على حكم الفيلسوف، تختلف النظريتان في الأسس الميتافيزيقية والدور الديني والاجتماعي.
جمهورية أفلاطون تهدف إلى تحقيق العدالة عبر تنظيم المجتمع في ثلاث طبقات: الحُكّام (الفلاسفة-الملوك)، الحراس (الجند)، والمنتجين (العمال) أما العدالة فتكمن في أن يؤدي كل فرد دوره دون تدخل
تقوم ألجمهورية على نظرية المُثُل، حيث الفيلسوف-الملك هو من يدرك "مثال الخير" أما التعليم في ألجمهورية فيركز على الفلسفة والرياضيات لتخريج قادة حكماء.
يدمج ألفارابي في مدينته الفاضلة الفلسفة اليونانية (خاصة أفلاطون وأرسطو) بالعقيدة الإسلامية إذ يقود المدينة الفاضلة هذه الفيلسوف-النبي، الذي يجمع بين الحكمة الفلسفية والوحي الإلهي, عند ألفارابي يكون المجتمع هرمياً، يرتبط أفراده بالقدرة على الاتصال بالعقل الفعّال (الفيض الإلهي) أما مفهوم السعادة فهو آخروي يكمن في تحقيق الكمال الروحي عبر اتباع الشريعة والتقرب إلى الله.
أوجه التشابه بين ألجمهورية والمدينة الفاضلة تتلخص في أن كلتا النظريتين ترى أن الحاكم المثالي هو فيلسوف، لكن الفارابي يضيف صفة النبوة, كما أن هناك الهرمية الاجتماعية تقسيم المجتمع إلى طبقات وفقًا للقدرات برأي أفلاطون أو القرب من الحقيقة الإلهية لدى الفارابي. شدد كلا الفيلسوفين على تربية النخبة عبر تعليم يُنمّي العقل والفضيلة. تكشف المقارنة أن كلا من إفلاطون والفارابي كانا يسعيان إلى تحقيق العدالة والسعادة عبر حكم الحكمة، لكن الفارابي يدمج البعد الديني بشكل جوهري، بينما يبقى أفلاطون في الإطار العقلاني المحض. يعكس الاختلاف بينهما ثراء الحوار بين الحضارات وتكيُّف الأفكار مع السياقات الثقافية والدينية المختلفة
أما أوجه الإختلاف, أساسها إضافة ألفارابي ألنكهة ألدينية للجمهورية لتحويلها إلى مدينة كهان. فركز إفلاطون على تحقيق الانسجام الدنيوي عبر العقل. ألنقد هنا لا يكمن في اتهام الفارابي بالسرقة، بل في دراسة كيف نجح – أو فشل – في توظيف الفلسفة اليونانية لخدمة رؤيته الروحية والسياسية. هذا هو الجدل الذي يستحقه الفارابي كفيلسوف.