أزمنة التشظّي

أيمن زهري
2025 / 3 / 18

‏يمكنني القول بكثير من التأكد أن العالم قد دخل في حقبة يمكن وصفها بـ"أزمنة التشظّي"، حيث تسود حالة من التشتت والانقسام على المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية. في قلب هذا التشظّي تقف وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان يُفترض أن تعزز الترابط بين البشر، لكنها في الواقع ساهمت في تفتيت الانتماءات الجماعية، ونشر النزعة الفردانية، وتصاعد الخطابات المتطرفة، وانحسار الثقافة العميقة لصالح ثقافة الاستهلاك السريع.

وسائل التواصل الاجتماعي: تواصل أم تفتيت؟
كان يُنظر إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كأدوات ثورية ستسهم في توحيد الشعوب وتعزيز الوعي الجمعي، إلا أن الواقع كشف عن وجه آخر لهذه الوسائل، حيث تحولت إلى منصات تُعمّق العزلة وتغذي الانقسامات. فمن خلال خوارزميات مصممة لتعزيز التفاعل بناءً على الاستقطاب، أصبح الأفراد محصورين في "فقاعاتهم المعلوماتية"، مما أدى إلى تضاؤل فرص الحوار الحقيقي، وتعزيز الانغلاق على الذات، وانتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المغلوطة التي تؤدي إلى مزيد من التشظّي الاجتماعي.

صعود الفردانية وانحسار الجماعية
إلى جانب وسائل التواصل، يشهد العالم موجة غير مسبوقة من النزعة الفردانية التي تجعل الأفراد أكثر تركيزًا على تحقيق ذواتهم بمعزل عن أي انتماء جماعي. لقد ضعفت الهويات الجماعية التي كانت تشكل سابقًا نسيج المجتمعات، مثل الأسرة، والنقابات، والأحزاب السياسية، لصالح هويات آنية متغيرة، غالبًا ما تُبنى على الاستهلاك والميول الشخصية. وقد أدى ذلك إلى تقلّص الروابط الاجتماعية التقليدية، وتزايد الشعور بالوحدة والاغتراب حتى في ظل الفائض الاتصالي الذي نعيشه اليوم.

تفكك الانتماءات وصعود اليمين المتطرف
يواكب تفكك الهويات الجماعية صعود لافت لليمين المتطرف في العديد من دول العالم، حيث يجد بعض الأفراد في الأيديولوجيات المتطرفة ملاذًا من حالة الاضطراب والتشظّي التي يعيشونها. فبينما تضعف الانتماءات التقليدية، توفر الحركات اليمينية المتطرفة خطابًا يُعيد تشكيل الهوية من خلال بناء "العدو المشترك"، سواء كان المهاجرين أو الأقليات أو النخب الثقافية. وهذا ما أدى إلى تزايد موجات الكراهية، وصعود سياسات الهوية التي تعمّق الاستقطاب داخل المجتمعات بدلاً من البحث عن قواسم مشتركة توحدها.

اضمحلال الثقافة: من المعرفة إلى الاستهلاك
في ظل هذه التغيرات، لم تسلم الثقافة من موجات التشظّي. فقد تراجعت القيم الثقافية العميقة أمام ثقافة الاستهلاك الفوري، حيث أصبح المحتوى السريع والمبتذل هو السائد، بينما تضاءلت مساحة الفكر العميق والمعرفة الرصينة. لقد أصبح "المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي" أكثر تأثيرًا من المفكرين والعلماء، وأصبحت الثقافة تُقاس بعدد المشاهدات والتفاعلات بدلاً من عمق الطرح وجودته. وهكذا، ساهمت هذه الظاهرة في خلق حالة من السطحية الثقافية التي تجعل المجتمعات أقل قدرة على فهم تعقيدات الواقع وأقل قدرة على مواجهة تحدياته.

هل من سبيل إلى إعادة التماسك؟
في ظل أزمنة التشظّي هذه، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يمكن إعادة بناء نسيج اجتماعي وثقافي أكثر تماسكًا؟ قد يكون ذلك ممكنًا من خلال استعادة دور المؤسسات الثقافية والتعليمية، وتعزيز قيم الحوار والانتماء المشترك، ومواجهة النزعات الفردانية ببدائل تعزز الوعي الجماعي. كما ينبغي إعادة النظر في دور وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث تصبح أداة للتواصل الحقيقي بدلاً من أن تكون عاملاً لتعميق الفرقة. إن تجاوز هذه المرحلة يتطلب وعيًا جماعيًا بمخاطر التفكك، وسعيًا جادًا نحو إعادة بناء الجسور بين الأفراد والمجتمعات.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي