دراما رمضان وصراع الهوية الوطنية بين -مصر الكومباوندات- و-مصر المساكن الشعبية

محيي الدين ابراهيم
2025 / 3 / 18

في كل عصر، كانت الدراما بمثابة مرآة تعكس صراعات المجتمع وأحلامه، لكنها في الوقت ذاته قد تتحول إلى مسرح يصنع واقعًا بديلاً، يقدم للمشاهدين صورة متخيلة عن أنفسهم أو عن الآخرين، وفي حالتنا بمصر، لطالما لعبت الدراما التلفزيونية، خصوصًا في موسم رمضان، دورًا محوريًا في تشكيل وعي الجماهير، فهي ليست مجرد أعمال فنية للترفيه، بل تُمثل سردية ثقافية ترسم معالم المجتمع في أعين أبنائه.
لكن، مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر خلال العقود الأخيرة، تغيرت معالم هذا المسرح، ولم تعد الدراما الرمضانية تعكس، كما كانت في الماضي، صورة مجتمع واحد ذي طبقة وسطى متماسكة تشكل عموده الفقري، بل بدلاً من ذلك، أصبحت الدراما تعكس ازدواجية صارخة بين "مصر الكومباوندات"، حيث تسود الحداثة والترف، و"مصر المساكن الشعبية والفئات الفقيرة والأكثر فقرا"، حيث يسود الصراع والمعاناة، وبين هذين النموذجين، نجد طبقة وسطى متآكلة، لم يعد لها تمثيل حقيقي في السرد الدرامي، مما يعكس حالة انقسام طبقي غير مسبوقة.
هذا التحول لا يقتصر على الواقع الاقتصادي فحسب، بل يتجلى أيضًا في أنماط السرد الدرامي، التي أصبحت تميل إما إلى تقديم نماذج خيالية لحياة مترفة منفصلة عن جمهورها، أو إلى إنتاج أعمال "شعبوية" ذات طابع استعراضي، تميل إلى المبالغة والتضخيم في تصوير الصراعات والعنف والبطولة المطلقة، وفي ظل هذه الثنائية، يصبح السؤال المطروح:
هل ما تقدمه الدراما الرمضانية اليوم يعكس حقًا المجتمع المصري؟ أم أنها تُعيد إنتاج صورة منحازة، تهدف إلى ترسيخ فئات اجتماعية معينة، بينما تهمش الأخرى؟
ربما يمكننا قراءة تطور الدراما الرمضانية في مصر، واستكشاف علاقتها بالتحولات الطبقية، ومدى قدرتها على تشكيل الهوية الوطنية أو المساهمة في تآكلها، من خلال الآتي:
1. التحولات الاجتماعية والاقتصادية وانعكاسها على الدراما الرمضانية:
ولعلّ أهم تحول أثر في بنية الدراما المصرية هو انهيار الطبقة الوسطى التقليدية، التي كانت لسنوات طويلة هي العمود الفقري للإنتاج الدرامي. وكما يشير الكاتب ياسر عبد اللطيف، فإن الدراما التي عرفتها مصر في الستينيات وحتى التسعينيات كانت تُصور حياة هذه الطبقة من خلال نماذج الشخصيات التي تعيش في أحياء القاهرة الفاطمية أو الحداثية. لكن مع تحولات الألفية الجديدة، تلاشت هذه الأحياء لصالح ظهور نموذجين متطرفين:
أحياء الأثرياء المسوّرة (الكومباوندات)، التي تقدم نموذجًا لحياة "نخبوية" بعيدة عن هموم الأغلبية.
العشوائيات والمناطق الشعبية، التي يتم تصويرها غالبًا بأسلوب مبالغ فيه يميل إلى الإثارة والفانتازيا.
ونتيجة لذلك، باتت الدراما المصرية إما تصور رفاهية زائفة لا تعكس الواقع الفعلي، أو تُقدم صورة مختزلة عن معاناة الطبقات الفقيرة دون تقديم قراءة حقيقية لظروفها.
2. الدراما الشعبوية وصناعة "البطل المنتقم":
في مقابل دراما "الكومباوندات"، التي تغرق في تصوير أنماط حياة مترفة بعيدة عن جمهورها، ازدهرت ظاهرة أخرى، وهي الدراما الشعبوية التي تقدم شخصية "البطل المنتقم"، كما في أعمال محمد رمضان ومسلسلات مثل "جعفر العمدة" و"الأسطورة".، واعمال أخري مثل "سيد الناس" و"العتاولة" وحيث تعتمد هذه الأعمال على تقديم شخصية ذكورية قوية تتحدى النظام القائم، وتنتصر في النهاية رغم كل التحديات.
ومن منظور نقدي، يمكن تحليل هذه الشخصيات من خلال نظريات نفسية للعلماء فرويد ويونج على النحو التالي:
في التحليل الفرويدي، يمثل "البطل المنتقم" تجسيدًا للرغبات المكبوتة في تجاوز القانون وتحقيق العدالة الفردية.
أما في التحليل اليونجي، فهذه الشخصية تمثل "الظل" في اللاوعي الجمعي، حيث تعكس الجوانب المكبوتة في المجتمع، لكنها قد تكرس أيضًا نموذجًا خطيرًا يتجاوز مفهوم العدالة القانونية.
وتؤدي هذه الظاهرة إلى تشويه مفهوم العدالة، حيث يصبح العنف والانتقام أدوات مشروعة لتحقيق التغيير، مما يؤثر على الوعي الجمعي بطرق سلبية، خاصةً في ظل بيئة اجتماعية مأزومة.
3. تأثير الإعلانات على تشكيل الذوق العام:
ومما لا يخفى على أحد، ترافق الأعمال الدرامية الرمضانية لإعلانات تسوّق لأنماط حياة مرفهة، مما يزيد من حالة الاستلاب الطبقي، في ظل الخصخصة المتزايدة لوسائل الإعلام، حيث باتت الإعلانات هي القوة المهيمنة على سوق الدراما، وأصبح نجاح المسلسل مرتبطًا بقدرته على جذب الإعلانات، وليس بجودته الفنية أو قدرته على التعبير عن الواقع.
وهذه الإعلانات، التي تروج للكومباوندات الفاخرة والسيارات الفارهة، نجدها تخلق فجوة نفسية بين المشاهد والواقع، مما يؤدي إلى مزيد من التهميش والإحباط لدى الطبقات الأفقر، ويؤدي إلى إحساس متزايد بالاغتراب لدى الطبقة الوسطى المتلاشية.
ومن ثم، وبناء على ماسبق، نرى أنه إذا كانت الدراما مرآة تعكس هوية المجتمع، فإن الهوية المصرية تبدو اليوم ممزقة بين سرديتين متناقضتين:
١ سردية النخبة التي تروج لصورة زائفة عن الحداثة.
٢ سردية "الشعبوية الاستعراضية" التي تصور المجتمع كحلبة صراع وعنف.
هذا، رغم أن الهوية الوطنية ليست انعكاسًا لطبقة معينة، بل هي تجربة روحية تتجاوز التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، بمعنى أن كل دراما لا تعكس تجربة الإنسان المصري بجوانبها المتعددة، تظل ناقصة ومشوهة.
ومن المسائل الملحة، هي النظر لإعادة بناء الدراما الرمضانية ليس فقط من زاوية تغييرات في الإنتاج أو التمويل، بل باستدعاء رؤية جديدة ترى في الفن أداة للتكامل، لا للتقسيم. فبدلاً من أن تكون الشاشة ساحةً لصراع الهوية، يمكن أن تكون جسرًا لإعادة تشكيلها، حيث تتلاقى قصص المصريين جميعًا، لا باعتبارهم أفرادًا متنافرين، بل كجزء من نسيج واحد، تتداخل فيه ألوان الحياة، تمامًا كما تتداخل ظلال الصحراء مع أمواج النيل في رحلة بحثها الدائمة عن الخلود.
إن الدور الوظيفي الأساسي للفن، هو أنه طريق إلى الحقيقة، وليس مجرد انعكاس للواقع، وكما كان الصوفيون يرون في كل تجربة انعكاسًا للوجود الإلهي، فإن الدراما يمكن أن تكون أكثر من مجرد صورة للواقع؛ يمكنها أن تكون بحثًا عن المعنى، ورحلة لاكتشاف الذات الوطنية، في عالم يعج بالفوضى والانقسامات.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي