![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
الشهبي أحمد
2025 / 3 / 18
الشرق الأوسط لم يكن يومًا ساحةً للصراعات العابرة، بل مختبرًا دائمًا لإعادة تشكيل موازين القوى. اليوم، ومع اشتعال التوترات من البحر الأحمر إلى الخليج العربي، لم يعد السؤال المطروح: "هل تنفجر الحرب؟" بل "متى وأين ستبدأ شرارتها الأولى؟" في عالمٍ تُرسم حدوده بالنار والدم، تتحول التحالفات إلى متغيرات آنية، والخصومات إلى مشاريع صدام مؤجل. هل نشهد ولادة نظام إقليمي جديد، أم أننا أمام فصل آخر من الفوضى التي لا نهاية لها؟
تشقّق أرض الشرق الأوسط تحت وطأة تحولات جيوسياسية عميقة، تدفع المنطقة نحو حافة مواجهة إقليمية قد تُعيد رسم خريطة النفوذ والتحالفات، ليس بين دول المنطقة فحسب، بل وعلى مستوى المصالح الدولية المتشابكة. ما يحدث اليوم ليس مجرد تصعيد عابر في نقطة ساخنة هنا أو هناك، بل هو تحوّل استراتيجي يُنذر بانزياحات كبرى في موازين القوى، حيث تتداخل الصراعات المحلية مع حسابات دولية معقدة، وتُحوّل البؤر المتفرقة إلى ساحة اشتباك واسعة تمتد من البحر الأحمر إلى الخليج العربي.
في قلب هذا المشهد المتأجج، يبرز الملف اليمني كنموذجٍ لتحوّل الصراع من أزمة محلية إلى بؤرة دولية. فما كان يُصَنّف سابقًا ضمن صراعات الوكالة ذات الأبعاد الإقليمية المحدودة، تحوّل إلى اختبارٍ مباشرٍ للإرادات الدولية. الضربات الجوية الأمريكية الأخيرة ضد الحوثيين، والتي خلّفت دمارًا واسعًا وخسائر بشرية، تكشف عن تحوّل جوهري في الرؤية الأمريكية: فالمجموعة الحوثية لم تعد "تمردًا محليًا" يمكن احتواؤه عبر وساطات خلف الكواليس، بل تحوّلت إلى تهديدٍ مباشرٍ للملاحة الدولية ولأمن واشنطن الاستراتيجي. الهجمات المتكررة على السفن في البحر الأحمر، والتي تُنفّذ بأسلحة متطورة، لم تكن لتصبح ممكنةً دون دعمٍ لوجستي واستخباري متقدم، ما يؤكد أن اليمن بات ساحةً لصراعٍ تتجاوز حدوده تداعياتُه الإقليمية إلى أبعادٍ عالمية.
هنا تطفو إيران كطرفٍ خفيٍّ في المعادلة، إذ تُظهر سياسةً تعتمد على التصعيد غير المباشر، مستفيدةً من أذرعها الإقليمية لفرض وقائع جديدة دون تحمُّل تبعات المواجهة المفتوحة. لكنّ خطورة اللعبة الإيرانية تكمن في أنها قد تدفع بالمنطقة إلى حربٍ لا تُريدها تمامًا، فاستهداف المصالح الأمريكية عبر الوكلاء يخلق حالةً من "الردع الهش"، حيث قد تفلت الأمور من عقالها بضربةٍ عسكريةٍ خاطئة أو قرارٍ متسرع. ومع أن طهران تحرص على إبقاء حبال التواصل ممدودةً عبر قنوات سرية، إلا أن تصعيد الحوثيين ضد أهدافٍ حيويةٍ يضعها في موقفٍ بالغ الحساسية: فإما أن تتراجع عن دعم وكلائها فتفقد مصداقيتها كحامٍ للمقاومة، أو تواصل اللعب بالنار وتُجبر على مواجهةٍ مباشرةٍ مع واشنطن، وهو سيناريو تُدرك عواقبه الكارثية على اقتصادها المنهك وهيكلها السياسي الهش.
لا تقتصر تداعيات هذا التصعيد على الجانب العسكري، بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي الذي بدأ يشعر بارتجاجات الأزمة. فمن ناحية، قفزت أسعار النفط بشكلٍ لافتٍ مع تصاعد المخاوف من تعطيل إمدادات الطاقة، خاصةً مع تهديد ممرات الشحن الحيوية في البحر الأحمر، حيث اضطرت شركات ملاحية كبرى إلى تغيير مساراتها، مما يزيد تكاليف التجارة العالمية ويُغذي موجة تضخمية جديدة. ومن ناحية أخرى، تشهد الأسواق المالية في المنطقة توترًا غير مسبوق، إذ تتراجع الاستثمارات مع تنامي المخاوف من انزلاق المنطقة إلى حربٍ طويلة الأمد. هذه العوامل الاقتصادية ليست مجرد نتائج ثانوية للصراع، بل قد تتحول إلى وقودٍ يُغذّي دوامة التصعيد، فالحكومات التي تواجه أزمات معيشية قد تلجأ إلى خطابٍ عدائي لتحويل الانتباه عن فشلها الداخلي، أو قد تدفعها الضغوط الاقتصادية إلى مغامرات خارجية لتعويض الخسائر.
في خضمّ هذا المشهد، يبدو أن المنطقة تتجه نحو نموذجٍ جديدٍ من الحروب التي تتجاوز المواجهات التقليدية بين الجيوش النظامية، لتعتمد على حروب الوكالة والحصار الاقتصادي والحروب الهجينة التي تدمج بين الضغط العسكري والإعلامي والاجتماعي. فالقوى الإقليمية والدولية لم تعد تمتلك رفاهية خوض حروبٍ شاملةٍ مكلفة، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن احتواء الصراعات عبر الحلول الدبلوماسية التقليدية، خاصةً في ظل انهيار الثقة بين الأطراف وغياب راعٍ دولي قادر على فرض تسوية. التاريخ يشير إلى أن الدبلوماسية في الشرق الأوسط غالبًا ما تنجح فقط عندما تكون جميع الأطراف منهكةً من الحرب، لكن الوضع الراهن يُظهر أن كل طرفٍ ما زال يعتقد أنه قادر على تحقيق انتصارٍ جزئي يعيد توازن القوى لصالحه.
السؤال المحوري الآن: هل يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة قبل فوات الأوان؟ الإجابة ليست بسيطة، فمن جهة، تدرك واشنطن أن انغماسها في حربٍ إقليميةٍ جديدة سيُشتت تركيزها في مواجهة التنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا. ومن جهة أخرى، تُدرك إيران أن أي مواجهة مفتوحة قد تُنهكها وتُعجل بسقوط نظامها تحت وطأة العقوبات والاضطرابات الداخلية. حتى الدول الإقليمية التي تتصارع على النفوذ، مثل السعودية وإسرائيل وتركيا، تدرك أن حربًا شاملة ستكون بمثابة انتحارٍ جماعي. لكنّ هذا الإدراك المشترك لم يترجم بعد إلى إرادة سياسية لخلق مسارات تفاوضية فعّالة، إذ ما تزال الحسابات قصيرة المدى تطغى على الرؤية الاستراتيجية.
في النهاية، قد تكون المنطقة أمام مفترق طرق: إما العودة إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط التصعيد الميداني والاقتصادي، وإما الاستسلام لسيناريو الحرب الشاملة التي ستدفع الجميع ثمنها، بمن فيهم من يظنّ نفسه بعيدًا عن جحيمها. الشرق الأوسط، بتعقيداته التاريخية وثرواته المادية وصراعاته الهوياتية، لا يحتاج إلى مزيدٍ من الحروب ليثبت أنه بؤرة العالم الأكثر اشتعالًا، بل يحتاج إلى حكمةٍ نادرة تدرك أن النصر الحقيقي لا يكمن في إسقاط الخصم، بل في إنقاذ المنطقة من براثن الفوضى التي تهدد بابتلاع الجميع.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |