![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
للاإيمان الشباني
2025 / 3 / 14
المجتمع المدني هو القلب النابض لكل دولة، إنه التعبير الحقيقي عن نبض الشعوب، عن وعيها، عن قدرتها على التأثير والتغيير، هو ذلك الكيان الذي يوجد بين الدولة والمجتمع، يشكل جسرًا بين السلطة والشعب، ويمنح الأفراد فضاءً لممارسة دورهم في الحياة العامة خارج الأطر الرسمية، فحين يكون قويًا يكون ضامنًا للتوازن بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والحقوق، وبين الواجبات والمطالب، وعندما يكون ضعيفًا أو هشًا، يغيب صوته ويترك فراغًا تستغله قوى أخرى قد لا تكون معنية بمصلحة المجتمع بقدر ما هي معنية بمصالحها الخاصة، فالمجتمع المدني يتفاعل مع الأوضاع المحيطة به ويتأثر بها، فقد يكون نشطًا في بيئات ديمقراطية حرة حيث يجد المساحة الكافية للحركة والاقتراح والتأثير، وقد يكون مكبلًا في بيئات استبدادية لا تؤمن بأهمية دوره، لكنه مع ذلك يبقى قوة قائمة بحد ذاتها قادرة على إحداث التغيير متى توفرت له الإرادة والفرصة
إن الدور الحقيقي للمجتمع المدني لا يقتصر على كونه قوة احتجاجية كما يظن البعض، بل هو شريك في التنمية، في البناء، في صياغة السياسات، في مراقبة الأداء العام، في توجيه الدولة نحو خيارات أكثر عدلًا وإنصافًا، فهو ليس مجرد طرف معارض أو جهة رافضة لكل شيء، بل هو قوة اقتراحية قادرة على تقديم البدائل والحلول، إنه الضمير الحي الذي ينبه الحكومات حين تنحرف عن المسار، ويرفع صوته دفاعًا عن الحقوق والحريات، وهو أيضًا الداعم لكل مبادرة تنموية تهدف إلى تحسين حياة الأفراد، وهو الذي يملأ الفراغ حيث تعجز الدولة عن الوصول، فيقدم خدمات اجتماعية وصحية وتعليمية لسد الفجوات وتحقيق التوازن المطلوب، فهو بذلك مزيج من الوعي والمسؤولية، وهو تعبير عن حس جماعي يدرك أن البناء لا يكون فقط بانتظار الدولة أن تقدم الحلول، بل بالمشاركة الفعالة في صناعة المستقبل
لكن المجتمع المدني ليس دائمًا في حالة واحدة من القوة والتأثير، فهو يتأثر بالعوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تحيط به، وقد يضعف عندما يتراجع الوعي العام، أو عندما تسود الفردانية على حساب العمل الجماعي، أو حين يتم تحجيمه وقمعه، أو حتى عندما يتحول إلى مجرد هياكل شكلية خاضعة لأجندات معينة، فيصبح عاجزًا عن أداء دوره الحقيقي، فالمجتمع المدني القوي هو الذي ينبض بالحياة، الذي يتحرك وفق رؤية واضحة، الذي لا يكتفي بالكلام بل يعمل، الذي لا يكتفي بالنقد بل يقترح، الذي لا يكون مجرد تابع للأحداث بل صانعًا لها، أما المجتمع المدني الضعيف فهو ذلك الذي يقف موقف المتفرج، الذي يغيب حين يحتاجه الناس، الذي يتحول إلى مجرد واجهة بلا روح، وهو في هذه الحالة لا يمكن أن يكون قوة تغيير بل يصبح جزءًا من حالة الجمود
إن الفرق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة لا يكمن فقط في الاقتصاد أو الموارد أو السياسات الحكومية، بل يكمن في قوة مجتمعاتها المدنية، ففي الدول التي حققت نهضة حقيقية نجد أن المجتمع المدني هو قوة أساسية في المشهد، يساهم في بلورة الأفكار، يحرك المبادرات، يمارس دوره الرقابي، يخلق دينامية مستمرة، يدفع بالدولة نحو الأفضل، بينما في الدول التي تعاني من التخلف والركود نجد أن المجتمع المدني إما غائب أو ضعيف أو مشوه، فلا تأثير له، ولا قدرة على إحداث التغيير، وهو ما يجعل العلاقة بين المجتمع المدني والتقدم علاقة وثيقة، فلا يمكن لدولة أن تنهض دون مجتمع مدني حي، كما لا يمكن لمجتمع مدني ضعيف أن يساهم في تغيير حقيقي، فالمسألة ليست فقط في وجود الجمعيات أو المنظمات، بل في مدى فاعليتها، في مدى قدرتها على خلق التغيير، في مدى استقلاليتها عن المصالح الضيقة، وفي مدى ارتباطها بالقضايا الحقيقية التي تهم المجتمع
حين يكون المجتمع المدني واعيًا بدوره، منظمًا في تحركاته، مستقلًا في قراراته، قويًا في تأثيره، فإنه يصبح عامل توازن حقيقي داخل الدولة، يساهم في ترسيخ الديمقراطية، في نشر قيم الحوار والتسامح، في خلق وعي مجتمعي مسؤول، في دعم المشاريع التنموية، في حماية الحقوق والحريات، في مراقبة الأداء العام، في سد الفراغات التي لا تستطيع الدولة وحدها ملأها، أما حين يكون ضعيفًا فإنه يصبح مجرد ديكور في المشهد، بلا تأثير، بلا فعالية، بلا قدرة على التغيير، وهو في هذه الحالة لا يكون إلا عبئًا على المجتمع بدل أن يكون رافدًا من روافده، ولهذا فإن مستقبل أي دولة لا يعتمد فقط على سياسات حكومتها أو مواردها الاقتصادية، بل يعتمد أيضًا على مدى قوة مجتمعها المدني، لأنه هو الذي يخلق التوازن، وهو الذي يمنع السلطة من التغول، وهو الذي يجعل صوت الشعب مسموعًا، وهو الذي يساهم في تحقيق التنمية الحقيقية المبنية على المشاركة الفعلية وليس على القرارات الفوقية
إن المجتمع المدني في جوهره هو انعكاس لحالة الوعي داخل أي دولة، فإن كان هناك وعي بحقوق المواطنة وبأهمية المشاركة الفعالة في الحياة العامة فإنه يكون قويًا ومؤثرًا، أما إذا ساد اللامبالاة والتواكل والاعتماد الكلي على الدولة في حل كل المشكلات فإنه يضعف ويصبح مجرد كيان شكلي، ولهذا فإن بناء مجتمع مدني حقيقي يبدأ من الوعي، من التربية على قيم المواطنة، من الإيمان بأن التغيير لا يأتي فقط من الأعلى بل يبدأ من القاعدة، من الفرد، من إحساس كل شخص بمسؤوليته تجاه محيطه، من فهمه أن دوره لا يقتصر على الانتقاد والشكوى، بل يمتد إلى العمل والمساهمة في الحلول، فالمجتمع المدني ليس مجرد مصطلح نظري أو فكرة حالمة، بل هو ممارسة يومية، هو فعل، هو التزام، هو إدراك بأن لكل شخص دورًا في بناء مجتمعه، وأن الدولة مهما كانت قوية لا يمكنها أن تعمل وحدها، بل تحتاج إلى مجتمع مدني يقظ، واعٍ، مسؤول، قادر على التفاعل مع قضايا الواقع، وقادر على خلق التغيير الذي يطمح إليه الجميع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |