- ليلة إبادة العلويين: عندما صار القتل طقسًا مقدسًا -

أزاد خليل
2025 / 3 / 13

أنتم تقرأون الأن قصة حقيقية عن شهيد حي أسمه كرم أعطته الحياة فرصة العيش مرة أخرى ليتحدث عن جريمة الإبادة التي تعرض لها أهلنا الكرام من أبناء الطائفة - العلوية الكريمة

في ليلة واحدة، تحولت قرى الساحل السوري إلى مقابر جماعية. لم ينجُ أحد إلا الصمت، ولم يبقَ شاهد إلا الخراب. البيوت التي كانت عامرة بالحياة صارت رمادًا، والأزقة التي ضجت يومًا بأصوات الأطفال تحولت إلى مسالخ بشرية. كان الدم يفوح من الطرقات، والجثث متناثرة في كل زاوية، بعضها ممسكة بأيدي أطفالها، كأن الموت باغتهم قبل أن يتمكنوا من الهرب.

سبعة أيام مرّت منذ تلك المجازر، والعالم لا يزال يصم أذنيه عن صرخات الضحايا. سبعة أيام من التخاذل، من التبرير، من الحديث عن “حالات فردية”، وكأن آلاف الجثث التي سُحبت من بين أنقاض القرى المحروقة ليست دليلًا كافيًا، وكأن الناجين الذين يروون بشاعة ما حدث مجرد أصوات عابرة في ضجيج الأخبار المنسية.

رسالة من الجحيم

في خضم هذا الخراب، وصلتني رسالة من صديقي كرم، أحد أبناء الساحل، وأحد الذين عبروا من بين أنياب الموت، لكنه لم يخرج دون جروح، دون ذاكرة تقطر رعبًا.

“أنا زعلان منك كتير يا آزاد.. ليش ما اتصلت؟ ليه ما تطمنت علي وعلى أهلي؟”

كنت أقرأ كلماته، ويدي ترتجف. هل ما زال كرم حيًا؟ حاولت الاتصال به، لكنه لم يرد. بقيت أنتظر، متخوفًا من أن يكون قد أصبح مجرد اسم آخر يُدفن تحت عناوين الصحف الباردة. لكن بعد دقائق، وصلتني رسالة أخرى:

“ازاد، خلصنا.. احكي مع العالم، وصلوا رسالتنا للناس.. أهلي كلهم اندبحوا.. خوالي، عماتي، خالاتي..”

ثم تبعها تسجيل صوتي، صوته كان نزيفًا، لم يكن صوتًا بشريًا بل نحيب روح أُجبرت على تجرّع الألم حتى آخر قطرة.

الليل الأخير في القرية المنكوبة

عندما ردّ على اتصالي أخيرًا، لم يكن كرم الذي أعرفه. كان مجرد صوت متكسر، كأنّ الكلمات تتساقط منه قبل أن تخرج.

“كرم، أخي، نحنا معك، لا تخاف.. أنا جنبك.. احكيلي شو صار؟”

“ما بقدر.. خااااايف.. خايف يقتلوني.”

“كرم، هدي يا زلمة، احكيلي..”

أخذ نفسًا، وكأن الحكاية نفسها تخنقه:

“كنا قاعدين جنب الصوبيا، عم نتعشى شي خفيف، لما بلشت أصوات الرصاص والصريخ.. بيتنا بعيد شوي عن الطريق، أمي صرخت: اتركوا كل شي واهربوا عالحرش! كان البرد قارس، والظلام مثل القبر.. ركضنا، كنا نسمع الرصاص يقترب، كنا نبكي، لكن حتى البكاء كان رفاهية، حتى التنفس صار خطيئة.”

هرب كرم مع والدته وأخته، ومع بضعة ناجين آخرين، إلى الغابة المجاورة، فيما كانت قريتهم تُحرق وتُقطع أوصالها. ناموا في العراء، بلا طعام، بلا ماء، يأكلون العشب والأوراق كي لا يموتوا جوعًا. وعندما عاد إلى قريته، لم يجدها.

“كانوا عم يلموا الجثث، يحطوها بالتركتورات، ياخدوها ليخفوا الجريمة.. قتلوا نص الضيعة، ازاد.. نصها..”

ثم تردد، كأنّ الكلمات كانت أثقل من أن تُقال:

“وأخدوا بابا.. مسكين كان مريض سكر، ما بنعرف شي عنو.. بترجاك، ازاد، إذا بتقدر تعرفلنا شي عنه..”

كرم الآن مختبئ في منزل عائلة مسيحية، لكنه لم ينجُ حقًا. قال لي إنه يسمع أصوات الرصاص في رأسه حتى في الصمت، يرى الأشلاء في عينيه حتى في العتمة.

“كانوا يقولوا رح نذبح الكبير والصغير فيكم يا علوية.. الجثث، الدم، الأشلاء، كل شي براسي.. ما عم أقدر انساه.. أنا خايف كتير.. كتيررررر.. بترجاك ساعدنا.”

ثم انقطع الاتصال.

مجزرة بصمت دولي

ما جرى في الساحل لم يكن معركة، لم يكن اشتباكًا مسلحًا بين قوات متناحرة. كانت إبادة، كانت مجازر ممنهجة تمتد في القرى، منزلًا بعد منزل، وجسدًا بعد جسد، حيث لا يُسأل القتيل عن هويته إلا بعد أن يتلقى رصاصته الأخيرة.

في المشهد السياسي، كل الأطراف تتحدث، كل طرف يلقي باللوم على الآخر، بينما الضحايا لا صوت لهم إلا رائحة دمائهم التي التصقت بجدران البيوت المنهارة. في البيانات الرسمية، لا أحد مذنب، لا أحد مسؤول. الجميع يتحدث عن “التجاوزات الفردية”، عن “ملابسات الحادث”، بينما الناجون يبحثون بين الأنقاض عن أشلاء أحبائهم.

لقد حدثت مجازر مثل هذه من قبل، في رواندا، في البوسنة، في العراق، وفي كل مرة، كان العالم يتفرج، ثم يكتب تقاريره، ثم يدفن القضية في الأرشيف. هذه المجازر لا تحدث فجأة، ولا تنتهي فجأة، بل تتكرر كلما صمت العالم، وكلما تحولت الكارثة إلى مجرد خبر عاجل آخر يتلاشى بعد دقائق.

كرم لا يزال مختبئًا. لا يزال ينتظر عدالة لن تأتي، أو معجزة تنتشله من هذا الجحيم.
أما العالم، فهو لا يزال صامتًا.

لكن السؤال الحقيقي:
كم كرم آخر يختبئ الآن؟ وكم ضحية أخرى تنتظر دورها في مجازر لن تجد من يسمعها؟

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي