وداع متأخر لمقهى اللواء

عماد عباس
2025 / 3 / 13

هذا النص كتبته قبل سنوات طويلة، وكان شهقة عفوية من أعماق الروح.
وللتوضيح، فإن "اللواء" هي مقهى في الديوانية كانت تعود الى أبي كريم عباس. الهيبوكامبوس أو حصان البحر، ويسمونه أيضاً بالحصين، هو جزء صغير من الدماغ مسؤول عن الذاكرة. الملّاك الثوري الذي وزع أرضه للفلاحين حتى قبل إقرار قانون الاصلاح الزراعي والذي اغتيل لهذا السبب، هو الشهيد تركي الحاج صلال. بقية الشخصيات المشار اليها قد يتذكرها الجيل القديم من أبناء الديوانية.







وداعٌ متأخر لمقهى اللواء



ها انا ذا وحصينُ البحر نعود

وهو يجرٌ زما مي

نحو الأيام الاولى

أتوسلُ

رفقاً بي يا هيبوكامبوس

***************

عند تخوتِ " اللواء "

كبرتُ

اُطاولُ رأسَ الاركيلةِ

يلبدُ خوفي تحت التخوت

عناكبُ اكبرُ من راحتي.

***************

غيمةٌ من حرير

تقاسمني

في عالم ما بين الاقدام

مساحةَ لعبي

تتقافزُ

ترفعُ كفا لتهز الشِّبا ك

فيهربُ ذاك الدعيٌ

أبو العنكبوشْ

وأضحكُ

وهي تهرُّ

وتمسحُ بي فروتَها البيضاءْ

***************

هنالك خلقٌ كثيرٌ

جيرانُ المقهى جاءوا أيضاً

حلاقونَ وعطارونَ وإسكافيٌ

عبروا الشارعَ

مأخوذينْ

في هذا اليوم

جاء أبي بالتلفزيونِ

ومحكمةِ الشعبِ الى المقهى.

وشوشةٌ

نمشٌ في الشاشةِ

في الأعلى رجلٌ

ينصبُ سلكَ الهوائيِّ

اكثرُ من واحدٍ

يتبرعُ بالصيحاتِ

يميناً يميناً

كلا كلا ارجعْ

اصمت انت

يساراً قليلاً

ثم ارتفعَ التهليلُ

تصاعدت الصيحاتْ

حيّاكم حيّاكم

ظهرتْ محكمةُ الشعبِ اخيراً

***************

مثلُ أميرٍ بملابسهِ العربيةِ يخطو

هل أعطى إيعازاً

كي تصمتَ أحجارُ الدومينو؟

***************

الحاكمُ في التلفزيون موسيقارٌ

والمقهى أوتارٌ وطبولْ

يحكي:

تهتزُّ المقهى بالتصفيقْ

يصمتُ:

ينطلقُ الهتافونْ

عبداللِّيْ، المتجولُ

بالباقلاءِ المسلوقةِ،

في الخارجِ

يرقصُ نشواناً فوقَ العربةْ

***************

اللونُ الأحمرُ

قد ملأ الأركانْ

- كم راجتْ سوقُ الخطاطينْ!-

أطوالٌ كاملةٌ

عملتْ منها أمّي،

فيما بعدُ،

بطاناتٍ لوسائدِنا

يومَ تبدّلُ وجهَ الوسادةِ

ينطلقُ الإقطاعُ

الرجعيةُ والأستعمارُ

يمدّونَ لنا

ألسنةً ساخرةً

حمراء:

لقد انتصروا وفشلنا!

***************

وكأنّ الدنيا انقلبتْ

النسوةُ في الديوانيةِ

يرتدْنَ عروضَ الافلامِ

أبي صار افنديّاً

وأنا أبحرُ في علبةِ كبريتٍ

واُدندنُ لحناً

لم يسمعْهُ غيري من قبل

أمواجي قرنصةٌ في الدولابْ،

تلالٌ في علبةِ " تركيةَ "

- كان أبي مازال يدخّنُ –

أتسلّقُها فأرى أرضاً مسحورةْ.

أين تراها ذهبتْ ارضُ الدهشةِ

يا هيبّوكامبوس؟

***************

أبواقٌ وطبولْ

مسيراتٌ أتعبَتِ الجسرَ الخشبيَّ،

نقاباتٌ تنبعُ من شقِِّ في الأرضِ

العاملُ في السكّةِ

صارَ الآنَ لهُ بيت،ٌ

جنودُ الفرقة الاولى

محمولونَ على الاكتاف،ِ

الفلاحونُ يريدونَ حقوقاً في الأرضِ،

شغبٌ في الدغّارةِ

والشامّيةُ لا تهدأُ؛

الإقطاعيُّ يراودُ نرجسَ – امَّ الهندِ –

على حفنةِ حمّصْ؛

عمّي حسانْ لا يرتادُ سوى الافلامَ الامريكيةَ

ويحلمُ في عزِّ الظهرِ،

شيوعيٌ يعشقُ امريكا مارك توينْ

يُناغي مارلين مونرو،

وعلى وقعِ الأفلامِ يبدّلُ تسريحَته،ُ

يعملُ في أمْ عبّاسيّات

بتنظيمِ الفلاحينَ السرّي،

لهُ فرسٌ بيضاءَ،

قفّازاتٌ بيضٌ،

كسريةُ صيّادٍ

والكلبةُ لاسي.

سجارتُه الكونسليتُ الطويلةُ

فيها طعمُ النعناعْ.

حينَ يُقِيمُ أبو إلياسَ

- صديقُ الأطفالِ بلحيتِه البيضاءَ

وعينيه المطفأتينِ –

أذانَ الظّهرِ بجامعِ أهلِ السنّةِ،

يصحو عمّي منزعجاً!

أحياناً، عندَ العصرْ،

يأتي زوارٌ حزبيّونَ

واوراقٌ سرّيةْ،

لكنْ في اللّيلِ،

تظلُّ البابُ موارَبةً،

تتسلّلُ بنتٌ

من سكنِ الطالباتِ المجاورِ،

للغرفةِ في العِلّيةِ.

واحدةٌ منهُنَّ

جلسْتُ على تنّورتِها الحمراءَ،

لعبتُ بسلسلةٍ من ذهبٍ

تتدلى فوق الصدرْ،

ملأَتْ خدّيْ بالأحمرِ

قالت لي يا روحي،

أعطاني عمي فِلقَة تفاحٍ

واُغلقَتِ البابُ ورائيْ.

***************

المقهى صندوقُ بريدٍ

وأبي موضعُ أسرارْ.

تحياتٌ فيها تشفيرٌ

ينقلُها زوارٌ لا يعرفُهم،

منشوراتٌ تُطوى في الصندوقْ

في اليومِ التالي تتداولُها الأيديْ

***************

لكنَّ الردّةَ كانت تخطُو،

فرقةُ موسيقى الجيشْ

فوق العبّارةِ عندَ الجسرِ

تعزفُ لحناً غطّى صوتَ الردّةْ.

إنتعشتْ فئرانٌ وعقاربْ

تخرجُ من مكمنِها

في ضوءِ الشمسِ

مربّوا أجيالٍ

يشتمُهمْ صبيانٌ مأبونونَ

وفودُ الفلاحينَ تجوبُ الطرقاتِ

وتطرقُ أبواباً مغلقةً

الأرضُ تبورُ،

هنالِكَ جوعٌ،

يا للحيرةِ يا داخل حمود

كيف ستأتيَ

بالأجوبة؟

***************

في المقهى

خيَّمَ حزنٌ ووجومٌ،

ذبَحوا في النعمانيّةِ ملّاكاً ثوريّاً

وزّعَ أرضاً للفلاحينْ،

إحتجَزوا في سجنِ الفرقةْ الاولى

ضبّاطاً وجنوداً ثوريينْ،

وعلى منبرِ عاشوراءْ

رجلٌ بمسدّسْ

يفِحُّ من الحقدِ

يكادُ يغصُّ بحرفِ الشّينْ.

ثمّ اٌكتملَ الطوقْ:

شركاتُ النفطِ وضباطٌ قوميونَ

مراجعُ مأجورونَ

الشّاهُ الأيرانيُّ وعبدُ النّاصرِ

والغفلةُ والأخطاءْ.

وا أسفاهْ

البارزانيونَ انضمّوا للردّةِ أيضاً

***************

لكنّ الديوانيةَ تستعصيْ

والمقهى

حتّى بالضحكِ تقاومْ،

خليلُ الحلّاقْ

يخرجُ والمُوسى في يدِهِ

يُلقي نكتتَهُ عِبرَ الشارعِ

تنفجرُ الضّحكاتُ

تغدُو كرةً

تجتازُ الجسرَ الخشبيَّ

لتكبُرَ

في طرقاتِ الصّوبِ الآخر

***************

في الرّوضةِ

عندَ النهرِ

تخلعُ سِتْ إيمانْ

وواحدةٌ اُخرى لا اذكُرها

أرداءَ الكذْبِ

ويُغلقْنَ الأبوابْ،

يشتدُّ الرقصُ وتعلُو الموسيقى

نادِيةُ الطفلةُ بنتُ الضابطِ

ترقصُ مثلَ ملَاكٍ

وأنا أتمايلُ كالقردِ

أُقلّدُها

يضحكُ منّي الأولادْ

***************

دارُ المعلمينَ مطوَّقةٌ

اليومَ هو التصويتُ.

حشدٌ يتجمّعُ في المقهى

وترٌ مشدودٌ للآخِرِ

هل مرَّ الخُضَريُّ اليوم؟

عند الظهرِ

يلعْلعُ صوتُ الرصاصْ

أمسكَني رجلٌ

بعباءَتِهِ أخمَدَ خوفي

لا تفزعْ يا ولدي

هذي صعّاداتٌ.

تظاهرةٌ في رأسِ الجسرِ الآخرَ

ولدٌ يركضُ

يلهثُ بالأخبار

لقد إعتقلوا الخضري

***************

في "الجُّدَيْدَةِ"

بابٌ من خشبِ الصاجِ

ومطرقةٌ من نُحاسٍ

لا أستطيعُ الوصولَ إليها

***************

دربونتُنا مغلقةٌ،

في آخِرِها

بابٌ أزرقَ

تخرجُ سعديّةُ منهُ

على رأسِها كدَسٌ من صحونٍ

تجلِيها في مجرى النهرِ

عباءَتُها تنفخُها الريحُ

طائرةً من ورقٍ أسودْ.

تُمسّدُ رأسي أحياناً

وهي تمرُّ

فتملأُ أنفي

رائحةُ المشمشِ.

في يومٍ مجنونٍ

ركبَ الجنّيُّ أباها القصّابَ

فلاحقَها حتى النهرْ

غزالةْ غزّلوكي

بالماي دعبلوكي

قاعْدةْ على الشطْ

قاعدة تمشّطْ

لكنّ نُومي تأخّرَ عنها

فاجأَها السّكينُ

وظلَّتْ جثّتُها طافيةً

فوقَ الماءْ

غابتْ عن دربونتِنا

رائحةُ المشمشِ

والبابُ الأزرقُ غلَّفهُ الموت

***************

في الجهةِ الأُخرى

بَرْبَنُ يفترشُ الارضَ،

في يدِهِ قضبانٌ من ذهبٍ مغشوشْ

يُدحرجُها فوق التّختِ الخشبيّ.

النّقشُ السحريُّ

سيمنحُ للنسوةِ أطفالاً

ولجنديِّ مشاةٍ

في الفرقةْ الاولى

سيُحنِّنُ قلبَ حبيبتِهِ

***************

الرجلُ الأعمى بعباءَتِه السوداء

يجلسُ في زاويةٍ في الظلِّ

يردِّدُ أنَّ المالَ من اللهِ وللّهِ

ما صدَّقهُ غيرُ القلّةِ

ظلّتْ طاستُه المعدنيّةُ تملؤها الريح

***************

وأنا أكبرُ تحتَ التخوتْ

والقطّةُ تكبرُ

والعنكبوتْ

***************

خَلِّ عنك الملامةَ يا صاحبي

أهو ذنبُكَ

أم هو ذنبي

أنَّ الأحلامَ

رمالاً صارتْ

تذروها الريحُ

ويجرفُها نهرُ الديوانية

***************

حلَّ الشتاءُ

غرقَ الجسرُ الخشبيُّ

مواسيرُ الماءِ إنفجرتْ

من شدّة الزمهريرْ.

في ذاك العامْ

في الشهرِ الفاضلِ

دهمتْنا أسرابُ جرادِ الحرسِ القوميِّ

لتتْركَ ختماً لا يُمحى

في جنبِ حصانِ البحرِ:

صار الشهرُ الفاضلُ عندي

عنواناً للقتلِ.

***************

لحا فٌ ثقيلٌ ينزلُ فوق البابِ المفتوحْ

المقهى مقفرةٌ

والتلفزيونُ مغطّى،

في الراديو مارشاتٌ

وبياناتٌ للقتلِ.

أبو زهرةَ،

دكّانُه في الرّصيفِ المقابلِ

واٌبنتُه السحليّةُ

لم يسمعْ لهُما أحدٌ صوتاً من قبلُ

اليومَ سيخرجُ من خلفِ الدّكانِ

ويصرخُ في الشارعِ

أينَ الحرس القومي

أين رجال الدين

كيف نسيتُم

هذا الرجلَ الكافرْ؟!

وجهُ أبي ليمونٌ

وأنا أهتزُّ من الخوفِ وأبكي.

في تلك الأيام

إعتقلوا عمي،

في سجنِ الحيِّ العصريْ

قاءَ من التعذيبِ البعثيِّ

مرارتَهُ والأحلامَ وماركَ توينْ

سيغصُّ بطعمِ الساعةِ السوداءْ

منذُ اليوم

هو طفلُ البوكرِ

والبليارد

وأشياءٍ أُخرى.

مزلقةٌ لا حدَّ لها،

سخريةٌ مرةْ،

نسيانٌ لا يأتي

***************

الآن وقد أُغلِقَت المقهى

ذقنا الجوعَ

وإنْ كُنا فرحينَ بأيّامكَ

في مجلسِنا اللّيلي.

نتحلّقُ حولكَ

نحنُ وأبناءُ العمِّ وجاراتٌ أو زوار.

الرُّبعيّةُ أَجلبُها من "عمُّو فكتور"

بكيسٍ ورقيٍّ

تتفنّنُ أمي

بصحونِ المزّة

فيُمازحُها:

ربابٌ ربةُ البيتِ

تصبُّ الخلَّ بالزيتِ

لها سبعُ دجاجاتٍ

وديكٌ حسنُ الصوتِ.

يبدأُ أحياناً من قصةِ بشار

لكنّه ساحرٌ للحكايةِ

مدفأةُ علاءِ الدين

بين يديهِ يقلبُها مصباحاً

يفركُه بأصابعِه

يستدعي كلَّ الشعراءْ،

تتفرّعُ قصّتُهُ

تلتفُّ وتُزهرُ مثلَ اللبلابْ.

أصابعُه تمتدُّ بأنباءِ الملكِ الظلِّيل،

ترتدُّ الى ناقةِ مالكٍ بنَ الريبِ

وتقفزُ عبر العصورِ

الى المتنبي،

الولّادةَ والمستكفي،

قصةَ قفْ بالمعّرةِ،

والعباس بن الأحنفِ

تسمعُهُ فتقولْ

هذي صُحبتُهُ

قدغادرهم للتوِّ،

وإذْ يصمتُ

والكفُّ تلفُّ الذقنَ

نحبسُ أنفاسَنا بإنتظارِ الأصابعِ

تُفلتُ خيطَ الحكايةِ

طائرةً من ورقٍ فيها كلُّ الألوانْ

أيام الجوعِ بغماس،

أياماً كان نزيلَ مصحٍّ

في عالَيْه بلبنان،

المتعُ السرّيّةُ والعشقُ الممنوعْ،

يهودُ الديوانيةِ،

أيامُ الحربِ

طه حسين

ستالين وروبنتروب.

الرجلُ المتسامحُ

يغسلُ كلَّ الضّغائنِ

بالضحكةِ المستريحةِ،

فيلسوفُ البساطةِ

من غيرما فلسفةْ.


تُرى يا أبي

تتذكّرك الديوانيةُ؟

غادرْتَ الدنيا محزوناً

وأنا كنتُ بعيداً

ما قلتُ وداعاً

اليومَ أقولُ وداعاً

وداعاً لمقهى اللواءْ

لروّادِهِ

للجُديدةِ والسوقِ والشطِّ

مدرستي

أصدقائي

وداعاً لمنْ لم أعُدْ أتذكّرُ

وداعاً أبي!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي