![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
محمود كلّم
2025 / 3 / 12
في ظلال التين والزيتون، وبين الميرمية والزعتر، هناك حيث تعانق الأرضُ السماءَ في سهول جنوب لبنان، وُلد عمر مصطفى المحمود (أبو مروان).
لم يكن مجرد رجلٍ، بل كان جذعَ سنديانٍ متأصّلاً في تراب عشيرة عرب السّمنيّة، يحمل في روحه عنادَ الأرضِ وصبرَ الفلاحين الذين لا ينكسرون أمام العواصف.
كان كالنهر، يسيرُ رغمَ الحجارةِ، وكالشمسِ، لا ينطفئ ضوؤها حتى وإن غطّاها الغيمُ، لكن النحس كان رفيقه اللدود، ظَلّاً أسودَ يطارده أينما حلَّ، يترصده كلما اقترب من بصيصِ أملٍ.
لم يكن محظوظاً، كأنّ المَصِيرَ قرّرَ أن يختبر صلابته حتى آخر لحظةٍ. وحين امتدّت يدُ الموتِ خطأً نحو صديقِ عمرهِ، محمود ظلام رميلي، كان كمن انكسر سيفه في منتصفِ المعركةِ، كمن سقط وهو يحمل رايةً لا يريد أن تسقط. لم يكن مقتله بيدٍ غريبةٍ، بل بيديه هو، وكان هذا الجرح أعمقَ من أن يندمل، ظلَّ ينزف في قلبه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وبقي الحزن على فراقه وشماً لا يُمحى من ذاكرةِ الأيام، لكنه لم يكن من أولئك الذين ينحنون للحزن، بل حمل في داخله ناراً لا تنطفئ، وروحاً تأبى القيدَ.
وحين ضاقت عليه الجدران في معتقلِ أنصار، كان من أولئك الذين غرسوا أصابعهم في صلابةِ الأرضِ، يحفرون نفقاً نحوَ الحريةِ كما تحفر الجذورُ طريقها في الصخرِ.
لم يكن محظوظاً ليعبر، فبقي هناك، بين الجدران، لكنه لم يكن أسيرَ اليأسِ، بل كان يزرع في قلوب رفاقه صلابةَ السنديانِ، ويحفّز هممهم كما يُصقلُ الحديدُ في لهيبِ النارِ.
وحين أُتِيحَت له الفرصة، لم يتردد لحظةً.
حمل نايف توهان المحمود (أبو أيمن) على كتفه، كما حمل قضايا شعبه طوالَ حياتهِ. لم يكن الحمل ثقيلاً، فالرجال العظماء لا تُثقلهم الأعباءُ.
أخفاه في برميلِ قمامةٍ، لكنه لم يكن قمامةً، بل كان مجداً محمولاً على أكتافِ الشرفاء.
إلى جانبه كان عمر حميدي (أبو رامي) وعلي كلّم (أبو لافي)، رجالٌ من طرازٍ آخر، كتبوا أسماءهم في سجلِّ البطولةِ بدمائهم، لا بحبرٍ زائلٍ.
رحل عمر المحمود (أبو مروان) كما عاش، شامخاً رغمَ الحزنِ، كالسنديانِ الذي يظلُّ واقفاً حتى بعد أن يَجِفُّ.
رحل، لكنّ روحه بقيت ترفرف مع كلِّ نسمةٍ تمرّ فوق سهول جالين، مع كلِّ زخةِ مطرٍ تغسل ترابَ عشيرتهِ، عشيرة عرب السّمنيّة، مع كلِّ عودِ زعترٍ وميرميةٍ يشهد على أنه كان هنا، كان رجلاً لا يُنسى.
ترافقنا ذات صباحٍ تحت ظلّ الشمسِ الحارقةِ، على شاطئ البحرِ عند مدرسة الراهبات، عند مدخل مدينة صيدا الجنوبي، في حزيران 1982. كان البحر هائجاً، كأنما يعكس اضطراب الأيام القادمة، وكانت الرمال تحرق أقدامنا كما لو أنها تنذرنا بفراقٍ قادم.
يومها، كنت محظوظاً فلم يتم اعتقالي، لكن الحظ لم يحالفه. رأيتهم يقتادونه من أمامي، رأيت نظرةَ الوداعِ في عينيه، نظرةً حملت ألفَ كلمةٍ لم تُقل، ثم مضى، ومضت معه الأيام إلى معتقلِ عتليت قربَ مدينة حيفا، ومنها إلى معتقلِ أنصار في جنوب لبنان.
لم يكن حلم العودة مجرد فكرةٍ عابرةٍ في ذهنِ عمر المحمود (أبو مروان)، بل كان وطناً يسكن قلبه، ظلّ يحمله معه أينما ذهب، كما تحمل الريحُ رائحةَ الزعترِ والميرمية من سهول جالين إلى الأفقِ البعيد. كان يحلم أن يعود يوماً، أن يَطَأ ترابَ عرب السّمنيّة بقدميه، أن يتفيأ ظلَّ التين والزيتونِ، أن يسمع همسَ الأرضِ التي أنجبته وهي تهمس له: "عدتَ، يا ابنَ هذه التربةِ، عدتَ يا من لم تَنسَني يوماً."
لكن الحلم ظلّ حلماً، والحنين ظلّ جرحاً مفتوحاً لم يندمل.
لم يمنحه المصيرُ فرصةَ العودةِ، لكنّ روحَهُ بقيت هناك، في كلِّ شجرة زيتونٍ، في كلِّ حبّةِ ترابٍ، في كلِّ نسمة هواءٍ تحمل اسماً صار خالداً.
لم تطأ قدماه أرضه مجدداً، لكنه لم يغادرها يوماً، فقد بقي جزءاً منها، محفوراً في ذاكرتها كما حُفرت هي في قلبه.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |