![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
محيي الدين ابراهيم
2025 / 3 / 10
سيلفيا بلاث: حكاية اسطورة الشعر التي احترقت في فرن التنمر الذكوري:
تُعتبر سيلفيا بلاث واحدة من أعظم شاعرات القرن العشرين. لم تعد مجرد امرأةٍ انتحرت، بل صارت رمزًا للمرأة التي حاولت أن تعيش بشروطها، فاصطدمت بالتنمر الذكوري، الذي أرادها أنثى للمتعة بلا عقل، فحطمها العالم بلا رحمة حتى من أقرب الناس إليها، إن كل قصيدةٍ كتبتها الأسطورة سيلفيا بلاث، تبدو اليوم كنداءٍ أخير، كتحذيرٍ لكل من يعتقد أن الحب وحده يكفي لإنقاذ روحٍ تحترق.
لقد احترقت سيلفيا بلاث في فرن الموت، لكن كلماتها بقيت، تشتعل في ذاكرة الأدب، كأنها رسالةٌ أخيرة من نجمةٍ لم تحتمل ظلم هذا العالم، فأطفأت نفسها بنفسها.
البداية: عضةٌ أولى على طريق المأساة
في ليلة باردة من عام 1956، كانت جامعة كامبريدج تشتعل بسهرةٍ أدبية، حيث اجتمع الشعراء والكتاب الشباب حول كؤوس الشراب، يتبادلون القصائد والنظرات الحادة. في تلك الليلة، التقت سيلفيا بلاث، الشاعرة الأمريكية ذات الموهبة الجارفة والاضطراب العاطفي، بالشاعر الإنجليزي تيد هيوز، الرجل الذي بدا لها كأحد آلهة الأساطير التي كانت تعشقها. انجذبت إليه بجنون، قرأت قصائده، ثم تقدمت نحوه كمن اكتشف سر الخلود. لكنه حين اقترب ليقبلها، لم تفعل ما يفعله العشاق عادة، بل عضّته في خده حتى سال الدم. كانت تلك العضة نبوءةً، إشارةً أولى إلى أن هذا الحب لن يكون مجرد قصةٍ رومانسية، بل مأساة مكتملة الأركان.
بعد أربعة أشهر فقط، تزوجا في مراسمٍ سرية، وكأنهما يخشيان أن يتدخل القدر لتغيير مصيرهما. لكن الزمن أثبت أن هذا الزواج لم يكن سوى بداية طريقٍ نحو الجحيم، حيث سيصبح الحب وقودًا للدمار، وستتحول الموهبة إلى لعنةٍ قاتلة.
سنوات الجحيم: الغيرة والجنون والطموح
كان كلاهما شاعراً استثنائياً، لكن النجاح لم يكن موزعاً بالتساوي. في البداية، كانت سيلفيا هي الداعمة، تراسل المجلات نيابةً عن تيد، تسعى إلى نشر قصائده، وتوفر له الأمان النفسي ليكتب. لكن في المقابل، كانت هي تعاني من قلقٍ داخلي لا يهدأ، تحاول أن تثبت أنها ليست مجرد ظلٍ لزوجها، بل شاعرةٌ عظيمة بحد ذاتها.
عندما نُشرت مجموعة هيوز الشعرية الأولى الصقر في المطر عام 1957، حصد شهرةً واسعة، بينما لم تحقق أعمال سيلفيا نجاحًا مماثلًا. كانت تدرك موهبتها، لكنها كانت ترى في عينيه نظرة المتفوق، كأنه يمنحها حبًا مشروطًا، كأن وجودها في حياته مرهونٌ بأن تظل هي الرقم الثاني.
كانت حياة هيوز مع بلاث أشبه بمعركةٍ دائمة. كان يراها امرأةً متطلبة، حساسةً بشكلٍ مبالغ فيه، بينما كانت ترى فيه رجلًا باردًا، أنانيًا، يملّ سريعًا من كل شيء. كان حبهما متطرفًا، كل لحظةٍ بينهما كانت مشحونة، إما بعاطفةٍ عارمة أو بصراعٍ حاد.
ثم جاءت الخيانة، الطعنة التي لم تتعافَ منها أبدًا.
آسيا ويفل: المرأة التي فتحت أبواب الجحيم
في عام 1962، التقت سيلفيا بآسيا ويفل، شاعرةٌ وكاتبةٌ جذابة كانت متزوجةً من صديقٍ مشترك. في البداية، كانت آسيا صديقةً مقربة، لكن سيلفيا لم تكن تدرك أنها ستصبح عدوتها اللدودة. لم يكن تيد مجرد رجلٍ يخون زوجته، بل كان عاشقًا متهورًا، لا يفكر إلا في رغباته الآنية.
بدأت العلاقة بينه وبين آسيا في السر، لكن لم يمر وقتٌ طويل حتى اكتشفت بلاث الحقيقة. لم تكن مجرد خيانةٍ عابرة، بل كان حبًا جديدًا، شيئًا شعرت بلاث بأنه يبتلع حياتها بالكامل. تيد لم يعتذر، لم يحاول حتى أن ينكر، بل على العكس، بدا وكأنه ينتظر منها أن تتقبل الأمر.
حين رحل هيوز ليعيش مع آسيا، تُركت بلاث وحدها في منزلٍ ريفي، وسط شتاء لندن القاسي. كانت مع طفلين صغيرين، بلا مال، بلا دعم، فقط مع أشباحها التي بدأت تتكاثر حولها. في ذلك الوقت، كتبت أعظم قصائدها، ديوان آرييل الذي سيخلّدها في عالم الأدب، لكنه كان أيضًا دليلًا على اقترابها من الحافة.
دوافع تيد هيوز وراء جنون سيلفيا بلاث
لم يكن تيد هيوز مجرد رجلٍ خان زوجته، بل كان عاملاً رئيسيًا في انهيارها النفسي. كان يرى فيها امرأةً متملكة، تغار بجنون، تحتاج إلى رعايةٍ دائمة، بينما كانت هي تشعر بأنه يستهلكها كما يستهلك الورقة والقلم. عندما بدأ يهملها، لم يكن ذلك مجرد فتورٍ طبيعي، بل كان سحبًا تدريجيًا لحبها، وكأنها بطاريةٌ استُنزفت حتى الفراغ.
لم يكن تيد يعاملها بلطفٍ حين اشتدت أزمتها النفسية، بل زاد من قسوتها. حين حاولت أن تواجهه بخيانته، لم يعترف فقط، بل استهزأ بغضبها، وكأن معاناتها لا تعنيه. كانت سيلفيا مريضةً بالاكتئاب، تحتاج إلى شريكٍ يحتويها، لكنه بدلاً من ذلك كان يشعل نارها أكثر.
أما اللحظة القاتلة، فكانت عندما بدأ يشكك في عقلها علنًا. كان يخبر أصدقاءه أنها مجنونة، أن نوبات الغضب التي تصيبهما سببها اضطرابها النفسي، وليس تصرفاته. حتى بعد رحيله، ظل يتلاعب بها عن بُعد، يرسل لها رسائل متناقضة، أحيانًا بكلماتٍ ناعمة، وأحيانًا ببرودٍ قاتل.
الموت في فرن الغاز
في 11 فبراير 1963، بعد ليلةٍ من العذاب النفسي، قررت سيلفيا إنهاء القصة بنفسها. استيقظت مبكرًا، أعدّت الإفطار لطفليها، ثم أغلقت باب غرفتهما بإحكام، وفتحت فرن الغاز، ووضعت رأسها داخله. كان الموت سريعًا، لكنه لم يكن مفاجئًا، فقد كانت كل قصائدها الأخيرة تصرخ بانتحارٍ مؤجل.
لعنة سيلفيا بلاث: عندما يطارد الموت الجميع
بعد انتحارها، لم ينعم تيد هيوز بالسلام. بل تحولت حياته إلى محكمةٍ مفتوحة، حيث كان يُنظر إليه باعتباره الرجل الذي قتل سيلفيا بلاث. تم تشويه قبرها أكثر من مرة، وتمزيق اسمه من شاهدة قبرها، وكأنها رسالةٌ من الأجيال القادمة بأن التاريخ لم يغفر له.
لكن القصة لم تنتهِ هنا. بعد ست سنوات، انتحرت آسيا ويفل بنفس الطريقة، مستخدمةً فرن الغاز، لكنها هذه المرة لم تذهب وحدها، بل أخذت معها ابنتها الصغيرة، وكأن لعنة سيلفيا كانت لا تزال تعمل في الخفاء.
ثم، في عام 2009، انتحر نيكولاس، ابن سيلفيا وتيد، بعد معاناةٍ طويلة مع الاكتئاب. كانت القصة قد اكتملت، ولم يتبقَ من هذه العائلة سوى آثارٍ مبعثرة في كتب الشعر، ورسائل لم تُقرأ بالكامل.
اعترافٌ متأخر: رسائل عيد الميلاد
ظل تيد هيوز صامتًا لسنوات، يرفض الحديث عن زوجته الراحلة، وكأنه يخشى أن يُعيد إحياء الأشباح. لكنه في عام 1998، قبل أشهرٍ من وفاته، نشر ديوانه رسائل عيد الميلاد، الذي كشف فيه عن وجهٍ آخر للحكاية. كانت القصائد اعترافًا متأخرًا، محاولةً لفهم ما حدث، لكنها لم تكن كافيةً لتبرئته في عيون العالم.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |