البندقية الشيوعية الثائرة

ملهم الملائكة
2025 / 3 / 10

لا يخطئ المرء اسم "البندقية الشيوعية الثائرة"، فهي "كلاشينكوف" الأشهر من نار على علم. إنها ليست مجرد سلاح، بل رمز سياسي قسّم العالم إلى "ثائرين" و"غير ثائرين"، وكانت كلاشينكوف هي عنوان كل الثائرين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هذه البندقية اسمها AK47، صممها وصنعها جندي برّاد وقائد دبابة سوفيتي يدعى (ميهائيل كلاشينكوفMihail Kalashnikov). الفكرة بدأت معه في المشفى العسكري حيث رقد فترة طويلة نتيجة اصابته في معركة بريانسك في أكتوبر 1941، وهناك سمع شكاوى الجنود من بنادق الجيش الأحمر آنذاك، وضعف أدائها أمام بندقية القتال الألمانية الشهيرة StG 44 التي كانت البندقية الرسمية للجيش النازي، فما كان من مصلح الدبابات الجريح، إلا أن يعكف على دراسة البندقية الألمانية الهجومية StG 44، متعرفاً على خواصها، ومشخصا أسباب تفوقها، ومنها استلهم انتاج البندقية السوفيتية الشهيرة كلاشينكوف، وهما لذلك متشابهتان حتى في شكلهما. وهكذا دخلت كلاشينكوف الخدمة في الجيش السوفيتي في خمسينيات القرن العشرين، وما لبثت أن أصبحت البندقية الرسمية لكل جيوش دول حلف وارشو، ثم أصبحت البندقية الرسمية لجيوش عدة عبر العالم، وكلها تنتمي لدول كانت تدور قريباً من فلك المعسكر الشيوعي أو كانت متحالفة معه، ومنها، عربياً فحسب، الجيش العراقي والجيش المصري والجيش السوري والجيش الليبي والجيش اليمني منذ ستينات القرن العشرين، والجيش الجزائري في فترة متأخرة من سبعينيات القرن الماضي ثم باتت سلاحاً رسمياً في الجيش السوداني وجيوش الصومال وجيبوتي وأرتيريا وموريتانيا. ومن المفارقات الغريبة إبان الحرب العراقية الإيرانية أن كلاشينكوف كانت السلاح الرسمي للجيش العراقي، والسلاح الرسمي للحرس الثوري الإيراني، فيما حافظ الجيش الإيراني على النسخة الإيرانية من بندقية المعركة الألمانيةG3 كسلاح رسمي له.
لا توجد إحصاءات نهائية معتمدة عن حجم انتشار كلاشينكوف، والأرقام المنشورة متفاوتة بشكل غير منطقي ولا واقعي، فهناك احصائيات تتحدث عن نصف مليار بندقية عبر العالم، فيما تتحدث إحصائيات أخرى عن 12 مليون بندقية، ومن جانبي أرى أن أسباب هذا التفاوت في الأرقام سياسية أكثر منها إحصائية! ولكني أميل إلى أن الرقم الحقيقي يزيد عن نصف مليار بندقية، والسبب أن انتاج البندقية كلاشينكوف لم يعد محصوراً بالمصانع الروسية، بل انتشر في كل انحاء العالم، ويقدر عدد الدول المنتجة للبندقية بأكثر من 20 دولة (الرقم غير محسوم لأسباب سياسية وأمنية واستراتيجية).
ومن بين الدول العربية التي انتجتها كان مصر في الطليعة حيث انتجت عام 1959 بندقية "معادي" وسبقتها بندقية "مصر" في وقت مبكر، ثم تغير خط انتاجها إلى خط معادي، وهي نسخة امتياز عن الكلاشينكوف الروسية الأصلية المنتجة مطلع خمسينيات القرن العشرين، ثم تلاها العراق، فانتج التصنيع العسكري مطلع ثمانينات القرن العشرين بندقية (تبوك) بنسخها: القصيرة (نصف أخمص) والطويلة (اخمص خشبي أبيض) وبنسخة القناصة تبوك، وكل هذه النسخ هي تطوير عن البندقية اليوغسلافية M70التي باعت امتياز الإنتاج إلى العراق. كما أنتج السودان بندقية كلاشينكوف (MAZ) بامتياز من النسخة الصينية Type 56.
ومن الأمثلة الغريبة النادرة عن دول انتجت البندقية كلاشينكوف، كانت إسرائيل، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد انتجت إسرائيل عدة نسخ منها: بندقية المعركة AR بعيار 7.62 ملم الخاص بجيوش حلف وارشو، وانتجت أيضاً نسخة بعيار 5.56 وهو العيار الرسمي لجيوش حلف الناتو. والمرء يتساءل كيف جرى هذا؟
المفارقة الأخرى الناتجة عن سعة مساحة انتشار كلاشينكوف هو أنّ ورشاً أهلية صغيرة عديدة تنتشر اليوم في بلدان عبر العالم وتقوم بتصنيع هذه البندقية، التصنيع غالباً يتم بتجميع الأجزاء، وبتعديل بعض الأجزاء التالفة، ويعثر المرء على هذه الورش في أفغانستان وباكستان واليمن وبعض بلدان أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى ومنها السلفادور، كما توجد مثلها في بعض الولايات الأمريكية. أما عتاد كلاشينكوف الشهير من عيار 7.62 ملم، فموجود بكثرة لا تصدق في أغلب بلدان العالم، كما أنها يصنّع محلياً في دول عدة، ويصنّع شخصياّ في ورش صغيرة موجود منها حتى في العراق وسوريا والأردن ومصر والسودان، وفي العراق يسمى العتاد المصنّع في الورش الأهلية "شدادة".
كلاشينكوف تعتبر منذ خمسين سنة، السلاح الأكثر كفاءة في العالم بلا منازع في المعارك لأسباب بسيطة وبديهية، لكن يجهلها أغلب الناس، ويمكن ايجازها بالتالي:
* التحمل والاعتمادية: تتميز كلاشينكوف بقدرة عالية على العمل في بيئات قاسية مثل الطين، الرمل، الماء، الثلوج، المناطق الرطبة. كما إنها مقاومة للعوامل الجوية السيئة والتلف، ويمكنها العمل بشكل فعال حتى بعد تعرضها للظروف الصعبة، وهو ما يجعلها سلاحًا مفضلًا في المعارك والأماكن ذات الظروف القاسية. وهي لا تحتاج إلى صيانة متكررة، بل تعمل آلياتها واقسامها المتحركة حتى إذا جفّ عنها تزييتها.
بساطة التفكيك والتركيب وسهولة الاستخدام: تمتاز كلاشينكوف بتصميمها البسيط، مما يسهل على الجنود (وأغلبهم أميون أو قليلو التعليم) تعلم كيفية استخدامها بسرعة. ويمكن للجنود استخدامها بكفاءة حتى لو كانوا مبتدئين في التعامل مع الأسلحة النارية. الجنود والمقاتلون المعتادون على التعامل مع كلاشينكوف لفترات طويلة، بوسعهم تفكيكها وتركيبها بشكل مفصل في ظلام دامس، دون حاجة إلى مصدر ضوء.
القدرة على التحمل: تمتاز كلاشينكوف بعمر طويل، حيث يمكنها إطلاق آلاف الطلقات دون أن تتعرض سبطانتها للتآكل والتنمل. هذه المتانة تجعلها خيارًا أولاً للعديد من الجيوش والفصائل المسلحة حول العالم.
القوة النارية والسرعة: تتميز كلاشينكوف بقدرتها على إطلاق النار بسرعة وبقوة، حيث أن مداها القاتل يصل إلى 400 متر (فيما يصل مداها النظري إلى 800 متر وهو مؤشر على مقسّطة المديات الخاصة بها) مما يجعلها فعالة في القتال القريب والمتوسط. كما أن سرعة رميها عالية، لاسيما في رمي الصلي، وحجم الرصاصة يجعلها سلاحًا حاسماً في الاشتباكات.
خفة وزنها وقصرها: تمتاز كلاشينكوف بخفة وزنها، وقصرها مقارنة ببنادق الجيوش الأخرى، وهذا يمنح الجنود والمقاتلين مرونة عالية في التعامل معها.
التكلفة المنخفضة وأسعار بيعها المتدنية جداً: مقارنة بأغلب الأسلحة النارية الأخرى، تتمتع كلاشينكوف بتكلفة تصنيع منخفضة. هذا يجعلها سلاحًا ميسورًا للكثير من البلدان والجماعات المسلحة، وهو ما ساعد في انتشارها الواسع.
تعدد وظائف حربتها، علاوة على سعرها المنخفض: حربة البندقية كلاشنكوف بنسخها التي بدأت تنتج في ثمانينات القرن العشرين، توفر للمقاتل وظائف عدة، فهي مع غمدها تعمل بمثابة مقص فعال للأسلاك الشائكة، كما أنّ نصلها كسلاح أبيض يجمع بين وظيفتي المدية والخنجر، فهو نصل قاتل من الجانبين، كما أن فيه تجاويف وفتحات تتيح استخدامه كمفتاح للعلب المعدنية، وكمفتاح لقناني المشروبات الغازية المضغوطة.
علبة صيانة كفؤة وعملية: في أخمص (كعب) الكلاشينكوف الخشبي، توجد فتحة لإدخال علبة الصيانة الأولية للبندقية، وتضم هذه العلبة: مبرداً ومقدح نار وفرشاة معدنية ومبراة معدنية وخيطاً نحاسياً رفيعاً قوياً وبضع سنانير لصيد السمك (في بعض العلب حسب النسخ).
الانتشار الواسع: بسبب خصائصها التي تجعلها سلاحًا مناسبًا للعديد من البيئات والظروف، أصبح هناك ملايين من بنادق كلاشينكوف المنتشرة حول العالم، سواء في الجيوش النظامية أو الجماعات المسلحة، وهذه الوفرة يسّرت إمكانية تعميرها وأدامتها وتغيير أجزائها التالفة.
ميهائيل كلاشينكوف (الذي منح رتبة جنرال، وزيّنت صدره أغلب أوسمة الجيش الأحمر) فارق الحياة بعد مرض طويل عام 2013 عن عمر بلغ 94 عاماً، قبيل موته كتب رسالة إلى البطريرك كيريل كبير أساقفة الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، معبرّا عن معاناته الروحية بسبب مسألة باتت تؤرق حياته وهو على مشارف الموت مستفتياً رأيه الشرعي بالقول: "إذا كانت بندقيتي تسلب الناس حياتهم، فهل أنا الملوم على موتهم يا ترى؟"
وبعد كل هذا، دخلت كلاشينكوف في موروث الثقافة الثورية وتاريخ الشعوب في بلدان عدة تبدأ من فيتنام ولاوس وكوريا الشمالية في شرق آسيا، وتمر ببلدان آسيا الوسطى، أفغانستان، كازاخستان، تركمانستان، منغوليا، لتمر ببلدان الشرق الأوسط والعالم العربي، وبلدان إفريقيا، ثم تستقر في الموروث الثوري لبلدان أمريكا الوسطى والجنوبية. ولعل العرب يتذكرون قصيدة نزار قباني الشهيرة التي غنتها أم كلثوم ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والتي بثت أول مرة عام 1969:
أصبح عندي الآن بندقية
(...)
عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن وهوية
(...)
أصبح عندي الآن بندقية
قولوا لمن يسأل عن قضيتي
بارودتي صارت هي القضية
أصبح عندي الآن بندقية
أصبحت في قائمة الثوار
وهكذا تتغنى كل القصيدة ببندقية كلاشينكوف التي تبنتها جيوش الدول العربية بعد ما بات يعرف بنكسة حزيران 1967، وبعد أن أدرك الحكام العرب أن ليس لهم حليف إلا المعسكر الشيوعي.
لكن كلّ هذا السرد يحيلنا إلى مسألة صعبة مؤرقة لا نعرف لها جواباً: كيف قبل المعسكر الاشتراكي/ الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتي أن يبيع العالم العربي آلاف أطنان السلاح بلا قيود، حتى وصل التسليح الى الصواريخ والطائرات والدبابات وأجهزة الاتصال الحديثة، فيما كانت الأنظمة العربية تشن حرب إبادة على الأحزاب الشيوعية، وتقتل الشيوعيين، وتغتصب أجهزة أمنها الظلامية الرفيقات، وتشرد عوائل الشيوعيين وتصادر أملاكهم وأموالهم؟

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي