|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
أزاد خليل
2025 / 3 / 10
مجزرة الصمت والدماء
في ليلٍ أسود، لا قمر فيه ولا نجوم، تسللت الوحوش بين الأزقة، وجوههم مغلفة بالسواد، وأرواحهم غارقة في قذارة الجريمة. طرقوا الأبواب، ليس كما يطرق الإنسان باب جاره، بل كما تقتحم الوحوش أعشاش الطيور. شقوا الجدران برصاصهم، واغتصبوا الصمت ببكاء الأمهات، ليبدأ مهرجان الدم حيث لا رحمة، ولا إنسانية، ولا معنى للوجود سوى فحيح الموت.
صرخت أم كريم:
“يا ابني، اسمع صوت خالتك! اركض، شوف شو صاير!”
لم يكن بحاجة إلى الركض، فالرعب جاء إليهم بنفسه. في عتمة المدخل، رأى جثثًا ملقاة، ورأى رجالًا يجرّون الناس كما تجرّ الذئاب فرائسها. وسط الضوضاء، شاهد أم كريم، عجوزًا ترتجف، يدٌ قوية تسحب رأسها إلى الخلف، وسكينٌ تلمع تحت الضوء الخافت قبل أن تفتح عنقها كما يُفتح كيسٌ من القماش. لم تصرخ. كان الهواء قد اختنق بالصراخ ولم يعد أحدٌ قادرًا على إضافة صوت جديد.
كريم، الطفل ذو العشر سنوات، وقف بجانب أبيه، يختبئ خلفه كما يختبئ العصفور خلف أمه. لكنه لم يكن يعرف أن الأوغاد لا يقتلون الطائر الأم أولًا، بل يقتلعون جناحيه أمام ناظريها.
“لا… لا تأخذوه، هو مجرد ولد!” صرخ الأب، لكن البندقية لا تفهم كلمات الاستعطاف. دفعوه على ركبتيه، أمسكوا برأسه، ومر السكين على رقبته كما يمر المنجل على سنابل القمح. دمه نُثر على الجدران، ليرسم علامة الشيطان التي جاءت تحصد الأرواح. الأب تقيأ روحه بالبكاء، قبل أن تأتي رصاصة لتنهي عذابه، وتسقطه فوق جثة ابنه، كما يسقط الجبل فوق النهر.
المجزرة لم تكن انتقائية. خرجوا إلى الشارع، جمعوا الناس كما تُجمع قطعان الماشية، أوقفوهم صفًّا، واحدًا تلو الآخر. رجلٌ مسن تمتم ببقايا قرآن، فردّوا عليه برصاصة في الرأس، فتناثر دماغه على قدميه. امرأةٌ حبلى صرخت: “أنا حامل! أنا حامل!”، فلم يزدهم ذلك إلا تعطشًا، فركلوها في بطنها حتى سقط جنينها كتمثال صغير محطّم. لم يكن المشهد مجزرة، بل طقسًا وثنيًا لعبادة الدم.
في الزاوية، اختبأت فتاة في الرابعة عشرة، اسمها لينا. عائلتها كلها ممددة على الأرض، بلا حياة. لم يكن لدى السفلة وقتٌ ليشعروا بأي شيء، كانوا يريدون المزيد. أمسكها رجلٌ خمسيني، رائحته نتنة، أنفاسه مشبعة بالخمر والوحشية. بدأ يمزّق ملابسها كما يمزّق حيوان مفترس فرو فريسته. كانت تصرخ، لكن صوتها لم يكن أقوى من ضحكاته. انحنى فوقها، لكن لم يكن يعلم أن تحت الأقدام المهشّمة، تحت الأجساد المذبوحة، تحت الدمار الذي خلّفه، هناك روحٌ لم تنكسر بعد. في لحظة خاطفة، امتدت يدها إلى خنجره، وسحبته بحركة لم يتوقعها أحد. ثوانٍ قليلة، وسال دمه القذر على جسدها الطاهر، وتدحرج رأسه إلى جوار الجثث الأخرى. لم تكن تبكي، لم تكن تصرخ. كانت تراقب عينيه الميتتين، كأنها تسأل: “هل كنتَ تشعر بالقوة عندما كنتَ تمزّق ملابسي؟ هل كنتَ تظن أنني لن أقاوم؟”
لكن هذه القصة لم تبقَ حبيسة جدران المجزرة. هاتفٌ ملقى على الأرض التقط كل شيء. الفيديوهات خرجت إلى العالم كعاصفة غضب. انتشرت في الإنترنت كالنار في الهشيم. رأى الناس الحقيقة، رأوا الرؤوس تتدحرج، والأطفال يُذبحون، والنساء يُغتصبن، والرجال يُحرقون. لم يكن بالإمكان إنكار شيء.
النظام في دمشق اهتز. لم يكن هذا جزءًا من السيناريو. كانوا يظنون أن الجرائم ستُدفن تحت ركام الحرب، كما دُفنت آلاف الجرائم من قبل. أحد المستشارين أسرع إلى مكتب القائد، وجهه شاحب، صوته يرتجف:
“سيدي… الأمور خرجت عن السيطرة، الفيديوهات في كل مكان!”
رفع القائد نظره ببرود، ثم قال:
“لن يصدقهم أحد. نحن نتحكم بالسردية.”
لكن العالم لم يكن بحاجة إلى سردية. كانت المشاهد وحدها تكفي. كانوا بحاجة فقط إلى أن يرى الناس الحقيقة، وها هي الحقيقة أمامهم، حية، دامية، تُلطم كل من يحاول إنكارها.
الشارع السوري انقسم. كان هناك من قال: “هذا ليس نحن، هذا ليس شعبنا!” وكان هناك من قال: “لكنهم قتلونا من قبل، وهذا القصاص!” وبين الاثنين، اتسع الجرح، ونزف الوطن أكثر، وفاحت منه رائحة الموت.
عشرة آلاف روحٍ بريئة صعدت إلى السماء، تلعن قاتليها، تلعن العالم الذي وقف متفرجًا، تلعن الإنسانية التي أصبحت مجرد كلمة تُقال في المؤتمرات، بينما تُذبح في الشوارع.
هذه لم تكن حربًا. كانت إبادة. كانت لحظة كشفٍ مخيفة، لحظة أدرك فيها الجميع أن الوحش لم يعد يختبئ في الظلال، بل يسير بيننا، يحكمنا، يتحكم بمصائرنا، ويطلب منا أن نصفّق له كلما ذبح أحدًا جديدًا.
الآن، السؤال ليس من المذنب، ولا من الضحية. السؤال هو: من القادم؟
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |