|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

ثائر ابو رغيف
2025 / 3 / 8
تُعتبر رواية "صورة الفنان في شبابه" (1916) للكاتب الأيرلندي جيمس جويس عملاً تأسيسياً في الأدب الحداثوي، تتبع ألرواية مسيرة ستيڤن ديدالوس من الطفولة إلى الشباب، مُستكشفةً تشكُّل هويته الفنية والفكرية في مواجهة شبكة من القيود الدينية والسياسية والاجتماعية. من خلال تقنية تيار الوعي والبنية السردية المتطورة، يصوغ جويس رحلة استقلال الفنان عن الأنظمة المُهيمنة، مُحولاً السيرة الذاتية الجزئية إلى بيان جمالي وفلسفي
الثيمات المركزية: الصراع والتحرر
الدين والحرية
تتجلى أزمة ستيڤن مع الكاثوليكية في مشهدَي "الخطاب عن الجحيم" (الفصل الثالث) ورفضه الكهنوت (الفصل الرابع)، حيث يتحول الخوف من العقاب الإلهي إلى إدراك لـ"قفص" العقيدة. يُرمز إلى هذا التحرر عبر لغة الماء ("تطهير" الذنب بالتعميد) وانزياح السرد من لهجة وعظية إلى حوار داخلي حر
الهوية الفنية
يسعى ستيڤن إلى تعريف ذاته خارج إطار "الأيرلندي" أو "الابن المطيع"، مُستلهماً أسطورة ديدالوس (الذي صنع أجنحة للهروب من المتاهة). يشير اسم "ديدالوس" إلى ثنائية الأب/الابن، والتاريخ كـ"متاهة" يجب تجاوزها عبر الفن، لا عبر الولاء الأعمى (كما يُرى في حواره مع صديقه كرانلي)
السياسة واللغة
تُقدَّم آيرلند كـ"خنزيرة عجوز تأكل أبناءها" في الفصل الأول، حيث ينعكس الصراع السياسي بين القوميين والسلطة البريطانية في جدال عشاء الميلاد. لكن ستيڤن يرفض الانخراط في الخطابات القومية، مُفضلاً "صهر اللغة" لخلق واقع جديد، كما في قصيدته التي تُحوِّل إيما إلى أيقونة جمالية مجردة
البناء السردي والأسلوب: تطور الشكل والمضمون
اللغة المتغيرة:
تبدأ الرواية بلغة طفولية بسيطة ("كانت هناك مرة بقرة...")، ثم تتعقد تدريجياً لتعكس نضج ستيڤن الفكري. في الفصل الخامس، يصبح السرد انعكاساً لتأملاته الفلسفية حول الجمال (متأثراً بأفكار أرسطو وأكويناس/ ألقديس توما الإكويني)
الانزياحات الزمنية:
يُقدَّم الزمن عبر ذاكرة ستيڤن الانتقائية، حيث تُختزل سنوات دراسته في مشاهدَ مفصلية (كالعار الجسدي في المدرسة، أو لقاء إيما على الشاطئ)، مما يعكس سيطرة الذات على سرد حياتها
الانزياحات الجمالية:
في الفصل الأخير، يتحول ستيڤن من موضوع للسرد إلى راوٍ يسيطر على لغته (كما في مذكراته المجتزأة)، مُعلناً انفصاله عن العالم الخارجي
الرمزية والأساطير
الطيور والطيران: تُجسِّد الطيور الحرية (طائر الفينيق في الحلم) والخطيئة (الغربان كرمز للرهبان)، بينما يشير سقوط إيكاروس الأسطوري إلى مخاطر التمرد المفرط
الماء:
يرتبط بالتطهير (السباحة)، والولادة الجديدة (مشهد الشاب الواقف على الشاطئ)، لكنه أيضاً مصدر خطر (الطوفان في الخطاب الديني)
النقد والخلافات
رغم الإحتفاء بالرواية كـ"مانيفستو حداثوي"، إلا أن بعض النقاد يرون في ستيڤن شخصية متعالية، تنفصل عن الواقع الاجتماعي (كما في تجاهله لمعاناة أسرته). كما أن غياب الشخصيات النسائية الفاعلة (عدا الأم المُضحية وإيما الصامتة) يعكس محدودية منظور ستيڤن الذكوري
يُختتم العمل باستعارة الطيران الأسطوري: " سأرحل لمواجهة حقيقة التجربة للمرة المليون ولأصنع في مصنع حدادة روحي الضمير غير المخلوق لبني جنسي ". لكن جويس يترك النهاية مفتوحة: هل سيحلق ستيڤن كفنان حر، أم سيسقط كإيكاروس؟ هنا تكمن عبقرية الرواية؛ فهي لا تُجيب، بل تطرح سؤالاً وجودياً عن ثمن الإبداع في عالم يرفض الانزياح عن المألوف
فنهاية "صورة الفنان" ليست نهاية على الإطلاق، بل هي بداية. وتنتهي الرواية بمنفى ستيفن الذي فرض نفسه على نفسه من أيرلندا وعائلته والكنيسة وماضيه. وهذا يعكس قرار جويس بمغادرة وطنه إلى باريس وإيطاليا.