|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

ثائر ابو رغيف
2025 / 3 / 7
من غير لبس يعد جيمس جويس أهم روائي وشاعر وناقد أدبي أيرلندي في القرن العشرين ومن رواد الحركة الطليعية الحداثوية. من يطلع على أبداعاته يجد شغفاً ونفوراً في نفس ألوقت من وطنه الأم آيرلند. ساحاول هنا إلقاء بعض ألضوء على علاقته بوطنه الأم وإنعكاس ذلك في إبداعاته.
تُشكِّل علاقة جيمس جويس (1882–1941) بآيرلند إحدى الركائز الأساسية لفهم أعماله الأدبية، حيث تتجلى فيها ثنائية الجذب والنفور، النقد والحنين. عاش جويس معظم حياته في المنفى الاختياري (في ݒاريس وتريسته وزيورخ)، لكن آيرلند ظلَّت مسرحاً وحيداً تقريباً لنصوصه، مما يُظهر تناقضاً عميقاً بين رفضه لوطنه وارتباطه الجوهري به. هذه العلاقة المعقدة تنعكس في أعماله عبر عدة محاور:
المنفى والنقد الجذري: الهروب من "الشلل" الأيرلندي
غادر جويس آيرلند عام 1904، رافضاً سيطرة الكنيسة الكاثوليكية والقمع البريطاني، واصفاً بلاده في رسائل بأنها "بلد آكل للرجال". ففي مجموعته القصصية "أهل دبلنDubliners " (1914)"، يصوّر "الشلل" الذي يعانيه المجتمع الأيرلندي عبر شخصيات عاجزة عن الفعل، كـگابرييل في "الأموات" الذي يدرك فراغ حياته، أو الطفل في "عربي Araby" الذي يخسر أحلامه أمام قسوة الواقع. هذا الشلل يرمز لرفض جويس الركود الثقافي والسياسي الذي رأى أنه يُخنق الإبداع
دبلن: متاهة الذاكرة والهوية
رغم منفاه، اختار جويس أن تجري أحداث جميع أعماله في دبلن، حتى أنه قال: "إذا دُمِّرت دبلن، يُمكن إعادة بنائها من خلال روايتي عوليس " أليس مجرد قوله هذا يفضح عشقه لبلده بالتفاصيل ألدقيقة. في "صورة الفنان في شبابه"، تتحول المدينة إلى فضاء لصراع ستيڤن ديدالوس مع هويته، بينما تُصوَّر في "عوليس" (1922) بتفاصيلها الجغرافية الدقيقة (الشوارع، المقاهي، الجسور) ككائن حي يعكس تناقضات التاريخ الأيرلندي. هنا، دبلن ليست مكاناً مادياً فحسب، بل هي استعارة للذاكرة الفردية والجماعية التي لا يمكن للفنان الهروب منها. (تطرقت في موضوع سابق لرواية عوليس)
الصراع مع الكنيسة والقومية: البحث عن استقلال الفن
كان جويس ناقداً لاذعاً لدور الكنيسة الكاثوليكية في إعاقة التحرر الفكري، كما يتجلى في خطاب الوعظ المرعب في "صورة ألفنان في شبابه Portrait of the Artist as a Young Man"، الذي يُجسِّد الخوف كأداة للسيطرة. من ناحية أخرى، رفض الانخراط في الحركة القومية الأيرلندية التي كانت تتصاعد في عصره، معتبراً إياها شكلاً آخر من القمع. في الفصل الخامس من "صورة الفنان"، يرفض ستيڤن التوقيع على عريضة تدعم القضية الأيرلندية، قائلاً: "لستُ أناضل من أجل حرية لا أؤمن بها"، وهو موقف يعكس رفض جويس اختزال الهوية في الانتماء السياسي
الأسطورة واللغة: إعادة تشكيل التراث الأيرلندي
استخدم جويس الأساطير الأيرلندية والأوروبية كأداة لتعميق النقد الثقافي. في "عوليس"، يُعاد تشكيل ملحمة "الأوديسة" الهومرية في فضاء دبلن الحديث، مما يخلق مقارنة ساخرة بين البطولات القديمة وابتذال الحياة المعاصرة. كما وظَّف في "يقظة فينيگان Finnegan’s Wake " (1939) الأساطير الكلتية Celtic ، مثل أسطورة فين ماكول (أسطورة المحارب الأيرلندي فيون ماكول الذي بَنى جسرًا يمتد إلى اسكتلندا. وتقول الأسطورة أن العملاق الإسكتلندي، بيناندونر، قد أعلن تحديه لفيون. وكان بيناندونر أضخم كثيرًا من فيون، ولذلك حاول فيون التفكير في مخرج. فطرحت زوجته أوناج فكرة حاذقة. وعندما عبر بيناندونر الجسر بحثًا عنه، أخفته زوجته أوناج في زي طفل، وغطته في مهد. وعندما جاء بيناندونر، أخبرته أوناج أن فيون قد ذهب للتحطيب، ولكنه سوف يعود قريبًا. كما جعلته يرى «ابن فيون». وعندما رأى بيناندونر حجم الطفل، لم يكن لديه الرغبة في رؤية والده! فر بيناندونر مرتعبًا من المنزل، محطمًا الممر (الجسر) خلفه حتى لا يلحق به «فين ماكول» العملاق) ليُدمجها جويس في نسيج لغوي فوضوي يعكس تعدد الهويات الأيرلندية. لغته المبتكرة، المليئة بالاشتقاقات من اللهجة الأيرلندية والإنجليزية الهيبرنية (نسبة إلى الإسم اللاتيني لآيرلند هايبيرنيا)، كانت محاولة لخلق لغة "عالمية" تنتمي إلى التراث الأيرلندي دون أن تُسجَن فيه
الحنين المتناقض: المنفى كشرط للإبداع
رغم نقده اللاذع، يحمل أدب جويس نوستالجيا خفية لآيرلند. في "الأمواتThe Dead "، تحوّل الثلوج التي تغطي آيرلند إلى استعارة لوحدة الإنسان مع أرضه رغم كل الانقسامات. حتى شخصية ليوپولد بلوم في "عوليس"، ذلك اليهودي التائه في دبلن، يحمل سمات أيرلندية عميقة. يبدو أن المنفى، بالنسبة لجويس، لم يكن هروباً بل شرطاً رؤيوياً لرؤية آيرلند بوضوح، كما كتب: "أنا آيرلندي... وهذا يعني أنني ولدتُ ليكون لي ضمير حر ومتمرد"
علاقة جويس بآيرلند تشبه علاقة الابن العاق الذي لا يستطيع التخلص من حبّه للأم التي جرحته. أعماله تُقدِّم آيرلند ككيان معقد: ساحة للصراع بين الفرد والمجتمع، بين الحرية الفنية والقيود الأيديولوجية. في النهاية، يصوغ جويس من تناقضاته أدباً يحوّل الوطن من مكان جغرافي إلى فضاء أسطوري، حيث يصبح الهروب والعودة شيئاً واحداً ورغم نفوره أحياناً فما كتبه عن آيرلند يجعل ألقارىء يقع بحبها.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |