![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
عبد النور إدريس
2025 / 3 / 5
الحلقة 16
للقاص عبد النورإدريس
الجزء الأول: ضحكةٌ صنعت الأسطورة
لم تكن شيماء تعلم أن صوتها يمكن أن يفتح لها أبواب العالم، وأن مجرد قهقهةٍ صادقة قد تصبح جواز سفرها إلى مجدٍ رقميٍّ لم يكن يخطر لها ببال. في الزقاق الضيق حيث ترعرعت، كانت تعرف أن العالم لا يمنح الهدايا بسهولة، وأن الشهرة في عصرٍ يقدّس الصورة ليست أكثر من مسرحٍ واسعٍ يؤدي فيه الجميع أدوارهم بحثًا عن التصفيق، لكنّها لم تكن ممثلة، بل كانت هي النص نفسه، الضحكة التي كُتبت بصدقٍ وسط صخب الوجوه المتعبة.
لم تأت شهرتها من إثارةٍ متكلفة، ولا من استعراضٍ فجّ للذات، بل من شيءٍ أكثر جوهرية: من القدرة على صنع عدوى الفرح. حين حمّلت أول مقطعٍ لها وهي تضحك دون تصنع، لم تكن تدرك أن هناك شيئًا مخفيًا داخل تلك الشاشة، شيئًا يشبه الكيمياء، حيث تمتزج الضحكة بهرمونٍ رقميٍّ غامض، التكتومين، هرمون المنصة الذي يحدد من سيُشاهد، ومن سيُرفع، ومن ستُسلّط عليه الأضواء.
في عالم تيك توك، كانت الشهرة لا تتعلق بالمحتوى وحده، بل بالقدرة على فك شيفرة هذا الهرمون السري، على تحريك الخوارزميات كما تحرّك الراقصة طرف وشاحها في ضوء المسرح. شيماء لم تكن مجرد فتاةٍ تضحك، كانت أذكى من ذلك، كانت تدرك أن الضحكة وحدها ليست كافية، بل يجب أن تكون مزيجًا بين السحر والذكاء، بين العفوية والتخطيط، بين الفنّ واستعراض الذات في عصر الــ Striptease الرقميّ، حيث كل شيء يُكشف خطوةً خطوة، لكن دون أن يبدو مكشوفًا تمامًا.
الجزء الثاني: المسرح الرقمي واللعبة الخفية
في الثقافة الرقمية الجديدة، لم يعد مفهوم الستربتيز مجرد استعراضٍ جسديّ، بل أصبح لعبةً أعمق، استعراضًا تدريجيًا للشخصية، للهوية، للقصة التي تُحكى بلا توقف. تيك توك ليس مجرد منصة، بل هو مسرحٌ حديث، حيث يتعرّى المشاهير رقميًا، ليس عبر الجسد فقط، بل عبر سردهم المفتوح لأنفسهم، عبر كشف أجزاءٍ صغيرةٍ من حياتهم، حتى يُصبح الجمهور مدمنًا على الترقب، على الرغبة في رؤية المزيد.
هنا، كانت شيماء تمشي فوق الخيط الرفيع بين العفوية والاحتراف، بين أن تكون كما هي، وبين أن تعيد ابتكار ذاتها في كل فيديو جديد. فهمت سريعًا أن المتابعين لا يريدون فقط الضحكة، بل يريدون القصة وراءها، يريدون معرفة ما إذا كانت تضحك لأنها سعيدة، أم لأنها تخفي وجعًا أعمق، أم لأن هذه الضحكة نفسها هي استراتيجية مدروسة للبقاء في القمة.
هكذا، تحوّلت ضحكتها إلى أداةٍ في اللعبة، ضحكةٌ تحمل وراءها لغزًا صغيرًا، تجعل الجمهور يسأل: ما الذي يضحكها حقًا؟ هل هذه الضحكة صادقة؟ أم أنها جزءٌ من المسرحية الرقمية الكبرى؟
في هذا العصر، لا أحد يصعد دون أن يتعلم الرقص مع الخوارزميات، دون أن يفهم كيف يعمل التكتومين، الهرمون السريّ الذي يجعل بعض الحسابات تنفجر انتشارًا، بينما تظل أخرى عالقة في الظل.
كان المشاهير الجدد هم من فهموا هذه المعادلة، من عرفوا كيف يُعرّون أنفسهم بالقدر الكافي ليُبهروا الجمهور، لكن دون أن يكشفوا أوراقهم بالكامل. كان هذا هو الـ Striptease الأدبيّ، استعراض الذات بذكاء، كشف المشاعر على جرعات، تقديم القصة ببطء حتى يظل الجمهور جائعًا للمزيد.
الجزء الثالث: سندريلا التي كسرت المرآة
حين جاءت الدعوة الأولى لشيماء من منصة أزياء صينية، كانت تعلم أن هذه هي المرحلة التالية من اللعبة، أن تيك توك قد فتح لها بابًا جديدًا، بابًا يُعيد تعريف هويتها، ليس كفتاةٍ تضحك فقط، بل كرمزٍ للجمال، كوجهٍ للموضة الرقمية، كعارضةٍ لا تمشي فقط فوق منصة الأزياء، بل تمشي فوق أعصاب الجمهور، فوق شوقهم المستمر لرؤية التحوّل التالي في قصتها.
في شنغهاي، حيث انعكست صورتها على مئات الشاشات، شعرت للحظة أن المرآة التي كانت تصنعها بنفسها كل ليلة على سطح منزلها قد أصبحت حقيقة، لكنها كانت تعلم أيضًا أن هذه المرآة ليست بريئة، أنها مرآةٌ تتطلب العبور المستمر بين الوهم والحقيقة، بين الذات والصورة، بين ما هي عليه وما يريده الناس أن تكون.
كان هناك دوماً تساؤل: هل هي ما تراه في المرآة، أم ما يراه الآخرون فيها؟
تيك توك ليس فقط منصة، بل هو مصنعٌ لهوياتٍ جديدة، حيث يمكن لأي شخص أن يتحوّل، أن يُعيد بناء نفسه، أن يصنع أسطورته الخاصة. لكن في هذا العالم، هناك ثمنٌ دائم، هناك دوماً ستربتيز ماليّ، حيث تصبح الشهرة نفسها سلعة، حيث تبدأ المنصة في التهام أصحابها ببطء، حيث يصبح كل شيءٍ قابلًا للبيع، من الضحكة إلى المشاعر إلى تفاصيل الحياة الشخصية.
كانت شيماء تدرك هذا الثمن، كانت تعرف أنها كلما تقدّمت في اللعبة، زاد الرهان، زادت الحاجة إلى كشف المزيد، إلى إعادة اختراع نفسها من جديد. لكنها، على خلاف كثيرين، كانت تعرف متى تتوقف، متى تكسر المرآة بدلًا من أن تظل أسيرة انعكاسها.
وفي لحظةٍ فاصلة، بعد أحد عروض الأزياء الكبرى، حيث كانت تقف أمام آلاف الكاميرات، لم تضحك هذه المرة، لم تقدم ضحكتها المعتادة، بل نظرت مباشرة إلى العدسات وقالت بهدوء:
"في عالمٍ يبيع كل شيء، اخترت أن أشتري نفسي."
وكانت هذه، ربما، أعظم خطوةٍ قامت بها في لعبتها الخاصة.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |