مغامرات با حميد الحلقة رقم 9 تحلل على المباشر – صياغة فلسفية جديدة

عبد النور إدريس
2025 / 2 / 18

مغامرات با حميد
الحلقة رقم 9
القاص عبد النور إدريس


1- ولوج المتاهة الرقمية

لم يكن باحميد يرى في تيك توك سوى ملاذٍ خفيف من ضغوط يومه الطويل. في البداية، لم يكن أكثر من عابر في فضاء رقمي، يلقي نظرة على المقاطع الساخرة والتحديات العابثة. قال لنفسه:

"ما المشكلة؟ مجرد دقائق قليلة ثم أعود إلى واقعي."

لكن كما في أسطورة المتاهة، لم يكن هناك مخرج سهل. فكلما أنهى مقطعًا، قذفت به الخوارزميات إلى آخر، ثم آخر، حتى وجد نفسه غارقًا في تيار جارف من الصور السريعة، والكلمات المكررة، والانفعالات المستعارة.

لم يكن ذلك مجرد تصفح عابر، بل كان انزلاقًا تدريجيًا نحو ذوبانٍ غير محسوس. ومع أول تجربة للبث المباشر، أحس بشيء مختلف. كان الناس يتفاعلون، يعيدون كلماته، يطلبون منه المزيد. فجأة، لم يعد مجرد مشاهد، بل أصبح جزءًا من المشهد نفسه.

أحد متابعيه الدائمين كان Smart-FIBONCCI، شابٌ مهووس بالرياضيات والنماذج الرقمية والتريدينغ، يردد دائمًا نظريات عن "الانجراف السيبراني" وكيف يمكن للمنصات أن تعيد تشكيل هوية الإنسان دون أن يشعر.

2- المسخ الرقمي: بين نيتشه وأوسكار وايلد

مع مرور الأسابيع، صار باحميد أكثر من مجرد مستخدم عادي. أصبح شخصية، أداءً يوميًا، نصًا رقميًا مفتوحًا على التعديل المستمر. وجد أن الجماهير تحب الدراما، فبدأ يفتعل المشاحنات، يرفع صوته، يصطنع الغضب والانفعال. في كل مرة، كان الجمهور يصفق، وكأنهم يطلبون المزيد.

وذات ليلة، دخل NOURI19 إلى البث المباشر وقال له بنبرة هادئة:
"هل تدرك أنك لم تعد أنت؟"

ضحك باحميد ساخرًا:
"بل أصبحت نسخة أفضل من نفسي! هذا العالم منحني فرصة لم أجدها في الواقع."

ابتسم نوري19 وقال بنبرة تشبه أصداء نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت":
"بل منحك قناعًا يلتصق بوجهك حتى لا تستطيع خلعه. في كل مرة تبث، أنت لا تمثل نفسك، بل تمثل توقعات الجمهور، تُصبح ما يريده الآخرون لا ما تريده أنت. أليس هذا ما قاله أوسكار وايلد في صورة دوريان غراي ؟ الوجه الحقيقي يبهت، بينما الصورة المصنوعة تزداد بريقًا؟"

تلعثم باحميد للحظة، لكنه رد مدافعًا:
"لكن هنا أنا مرئي، لي جمهور، لي تأثير!"

هز نوري19 رأسه قائلاً:
"ولكن بأي ثمن؟ أنت لست المؤلف، بل الشخصية. أنت لست صانع المحتوى، بل المحتوى نفسه. لقد تحولت إلى مجرد انعكاس داخل مرآة لا نهائية، حيث كل خطوة تأخذك بعيدًا عن ذاتك الأصلية."

3- نظرية التحلل الهوياتي: بين باشلار والفينومينولوجيا

مرّت الأشهر، وبدأ باحميد يشعر بشيء غريب. لم يعد يعرف الفرق بين لحظاته الخاصة ولحظاته المصورة. لم يعد يعرف إن كان يضحك حقًا، أم فقط يؤدي دور شخص يضحك. صار يعيش وفق إيقاع الترندات، يتحدث بعبارات جاهزة، يغيّر قناعاته وفق ميول الجمهور.

وذات مساء، عاد Smart-FIBONCCI إلى البث وسأله فجأة:
"باحميد، هل تعرف المتتالية الفيبوناتشية؟"

أجابه متعجبًا:
"أعرفها كأرقام رياضية، لكنها لا علاقة لها بما نفعله هنا!"

ابتسم Smart-FIBONCCI وقال:
"بل هي قلب ما تعيشه الآن. إنها نموذج للتمدد المتكرر، حيث يبدأ كل شيء صغيرًا ثم يكبر وفق نسق لا نهائي. كما بدأت بخمس دقائق، ثم ساعة، ثم يوم، ثم حياة كاملة داخل الشاشة. هذا ليس عشوائيًا، بل نظامٌ رياضي يجعلك تعتاد على البقاء، حتى تذوب تمامًا في الشبكة."

هنا قاطعهم NOURI19 قائلاً بنبرة تأملية:
"غاستون باشلار قال إن المكان هو الذي يشكّل ذواتنا. إذا كنت تعيش داخل فضاء رقمي، فإنك تصبح كينونة رقمية. فينومينولوجيا الإدراك تحتم علينا أن نفهم أن وعينا مشروط ببيئته. وأنت، بيئتك الآن هي هذا البث، هذا التفاعل، هذه الوجوه التي لا تراها لكنها تحدد وجودك."

أحس باحميد برعشة غريبة. نظر إلى الشاشة فرأى وجهًا لم يعد يعرفه. هل يمكنه العودة؟ أم أن التحلل كان قد بدأ منذ زمن طويل، ولم يعد هناك طريق للرجوع؟

4- الانهيار داخل المرآة

في تلك اللحظة، انطلقت تنبيهات الدونات والورود الرقمية، انطلقت أصوات التعليقات المتحمسة، وكأن الجمهور لم يكن يرى ما يراه باحميد. كان يتوقع أن يصرخوا معه: "انتبه، أنت تذوب!" لكنه لم يسمع إلا: "أعطنا المزيد!"

تنهد NOURI19 وقال بصوت أشبه بالهمس:
"هل تعرف قصة نرسيس؟ ذلك الشاب الذي وقع في حب صورته حتى غرق فيها؟ أنت الآن أمام بحيرة تيك توك، لكن الفرق أنك لا ترى نفسك، بل ترى نسخة منك صنعها الجمهور، وأصبحتَ تحاول التشبه بها."

في لحظة صمت، رأى باحميد أن كل شيء كان يتكرر: نفس الحوارات، نفس التحديات، نفس الضحكات المفتعلة. لم يكن يعيش، بل كان يُعاد إنتاجه مرة بعد أخرى.

أغلق البث فجأة. وقف أمام مرآته الحقيقية. نظر إلى وجهه خارج الشاشة. لكن السؤال ظل يلاحقه:

"أيّهما الحقيقي؟"

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي