![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
أسيل العزاوي
2025 / 2 / 16
يطل علينا الشاعر عارف الساعدي بمجموعة قصائد أطلق عليها اسم ( الحاسوب ) يرصد بها التحول الإلكتروني وتداخله مع التجربة الإنسانية الإبداعية في عصر التكنولوجيا، وهي تجربة تجمع بين الانبهار والسهولة، وبين الضياع والاغتراب وانعكست كل هذه المقومات على الإبداع ذاته. ويبين الشاعر في وصف تجربته الشعرية الجديدة المعيشة مع بدايات ظهور الحاسوب واندماجه مع الإنسان. إذ تناول تجربته الشعرية عبر الوسائط الإلكترونية، وما ترافقها من آليات الحذف والمحو بوصفها حذفًا للمركزية الشعرية وحذف مشاعر الذات الإبداعية القابلة للنسيان.
يطرح الشاعر التساؤل الآتي في خصوصية الكتابة الإلكترونية، وأثرها في اجتراح أسلوب ثقافي كتابي جديد مختلف من خلال التفاعل بين الذات الحسية والوسائط الإلكترونية في الكتابة السايبورغية. التي أصبحت من ضرورات الكتابة من خلال التفاعل، التواصل ، الاندماج ، السهولة ، التعبير. ويقرً الشاعر/ الإنسان أنه لا ينفصل عن النظام السايبورغي بكل تجلياته على الذات الإنسانية بوصفها ذاتًا إبداعية قابلة للتحول والدمج في جعل وقائع الهوية التكنولوجية ليست بنية متعالية ؛ وإنما جزءًا من مصفوفة ما بعد التكنولوجيا في رسم الواقع الجديد والتعامل مع على حد دانا هاراوي في وصفها للإنسان السايبورغ ((يعد السايبورغ نمطا جديدا في دمع البيولوجيا بالتكنولوجيا وإعادة ترميم الهويات التي تنتمي إلى الهامش بخلق مساحة جدية لها تتحرك بها ولا تفصلها عن الواقع السياسي والاجتماعي والأخلاقي الذي ينبذها ، أي إنه جسر يردم الهوة بين الافتراض والواقع في انهيار الحدود بين الواقع والخيال والطبيعة والثقافة وبين المتجسد واللامتجسد في شبكات العلم والانهيار يرسب الشظايا هو ترسيب للمعنى الثقافي والمادي المتشابك ، أي تغيير الواقع الثقافي )) ( ينظر : كتاب نسوية السايبورغ : مقاربة في بيان السايبورغ والمعرفة من الواقع : دانا هاراوي ، تقديم ودراسة وترجمة : أماني أبو رحمة ، منشورات مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ، ط1 ، 2020م ، ص 16)
وسأقدم في هذا المقال تفكيك موجز عن البيئات التكنولوجية الشعرية الجديدة التي تختبرها ذات الشاعر إذ تمثل مثابة مقاومة للورقة ومقاومة أخرى للانزياح في التفرد والاعتزاز الكتابي عبر المحو السريع. سيما أن نصوص الساعدي ( قصائد الحاسوب ) ترصد التحول الثقافي في الذات التكنولوجية؛ لكنها في الوقت نفسه ليست ذات افتراضية ؛ بل ذات واعية في عمق تجربتها الجديدة.
يمتحور خطاب السايبورغ الشعري في نقد المفاهيم الجديدة والاندماج معها ، فهي بمثابة نسق ثقافي جديد للكتابة تختبره المرحلة الإنسانية في عصر الحواسيب ،ومن خلاله يتم يتجاوز التصورات الثقافية للنسق الثقافة الصلبة للإبداع، نحو الثقافة السائلة المنسابة المتحولة والمتغيرة والى أي مدى يتم هذا الدمع وضرورات المرحلة الجديدة ، إذ تمثل الانعطافة الإلكترونية حالة واقعية في كتابة الشعر . ونقرأ في نص رقم(1)
حين تركنا الأوراق البيضاء
ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا
لم يظهر ماذا يعني ان يرتبك الشاعر فوق الكلمات
ان يشطب مفردةً ويعيد صياغتها
ويعود اليها ثانيةً
ويحاول ثالثةً
ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة
او يرسم دائرة
ويشخبط فوق الاسطر ممتلئا بالحزن وبالعبرات
مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا
جفَّتْ انهارٌ كثرٌ
وانسحبت من اقدام الشعراء الطرقات
الحاسوب صديق كهولتنا
جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين
على الشرفات
لا نعرف من اين نعود الينا
نحن القديسين بلا صلوات
يفتتح الشاعر النص سبرغة الكتابة الإبداعية ، وأثر الاندماج الإلكتروني في خلق مساحات جديدة للكتابة تصطدم بالإبداع وتروضه، وهذا التحول الثقافي الجديد في الكتابة ، هو التحرر من المسودات الكتابية في إعادة الكتابة الشعرية ، طالما تحمل هذه المسودات عبئا الكتابة المستمرة السرية بين الذات الشاعرة والورقة في إنتاج النص ، ولما تحمل هذه العملية من تكرار يجعل القصيدة أكثر تنقيحًا وجودة وهو موروث متعارف عليه على غرار حوليات الشعراء العصر الجاهلي ،فالكتابة هي وعي مستمر لتخليص الإبداع من ثقل المشاعر المكبوتة. وعلى الرغم من إنها عملية ذاتية فهي مواجهة بين الكلمات الورقة، لا يعرف بها قارئ النص، بوصفها جهدًا مستمرًا الذي يعتز به الشاعر، باتت هذه المرحلة مفقودة ومرتجلة ، بل قابلة للمحو ، فلم يعد تكديس المسودات وإعادة رسم الكلمات محنة للكتابة الإلكترونية، فتخففت الكتابة الإبداعية ليس من شرط التفكير فحسب ؛ بل من شرط الكتابة المستمرة . فهذه المواجهة الحتمية بين الذات الشاعرة ولوحة الكيبورد عبر انتقالها من الخط اليدوي (القلم / الحبر ) إلى النقر الإلكتروني بواسطة الأصابع (الانسياب السائل )، إذ يركز الشاعر على المسافة الإبداع الإلكتروني، ويطرح النص التساؤل هل يختلف عن الإبداع الذي يكتب بالورقة عن الإبداع على لوحة الكيبورد بوصفه مرحلة أولية ونهائية للنص في إعادة الكتابة مرحلة مخاض مستمر لا يشوبه الانقطاع ، وفي كلتا الحالتين يتم توظيف الأصابع في الكتابة بصورة جديدة ، ويبقى السؤال هل الفكر الإبداعي يكون أكثر تحررا باستخدام التكنولوجيا للجسد ( الأصابع ) أم أنه عنوان للاغتراب التكنولوجي القلم أيضا يوفر مساحة المحو. فلم تعد الكتابة تجربة عقلية محضة ، وإبداع منفلت ، إذ يصبح جسد شريكا وقابلا للكتابة والمحو والمشاركة ؛ وتحول الحاسوب بمثابة الجمهور والذات النقادة في الآن نفسه ، بكونه إبداعا مغايرا يصحح نفسه عبر المحو التام . ويستمر الشاعر في رصد التجربة الإلكترونية وتحولاتها على الإبداع ونقرأ في نص رقم (2):
قبل ثلاثين سنة
قالوا ان الحاسوب سيدخل قريتكم
وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات
صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا
وبدأنا نتحسسه
ونصادقه
ونبوح له بالأسرار
من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ
ويميط السر عن الأزرارْ؟
كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟
كيف نبوح له؟
وبماذا نكتب حيرتنا؟
ونشد العمر على الأسوارْ
يا حاسوب الدنيا حاول ان تأخذنا في رفقٍ
لتدلَّ عليك
حاول ان تفتح في هذي الظلمة عينيك
نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ
ننطر في هذا البرد القارس
دفء يديك .
يعود الشاعر في رصد الاغتراب التكنولوجي الفردي على الحرية الإبداعية التي فرتها التكنولوجيا الرأسمالية ، في جعل الإبداع متكامل بوصفه تجربة فردية، وحالة مغايرة في خلق هوية شعرية كسرت المركزية الإبداعية الموروثة من الصحراء إلى الحاسوب ، وهذه الا نعطافة الرقمية في جعل صندوق الأسود يستع أكثر من خيال الصحراء في تكوين الإبداع ، فمازالت ذات الشاعر ترفض كسر هذه المركزية في مغادرة الأصل وهي البيئة شعرية الصحراوية الممتد في وعي الشاعر، إلى وعي تكنولوجي هجين مغلق ملاصق للذات في مراحل إبداعها. ومن جانب آخر يرصد النص اثر التكنولوجيا عبر التحرر من نسق المعايير الثقافية للكتابة هو امتلاك الحاسوب ، إذ يعد العتبة الأولى في إزالة الحواجز، وجعل الكتابة متاحة للجميع . في المقابل أصبح هذا الإبداع السهل بمثابة مواجهة وجودية لعالم موازي يسهل كل شيء؛ لكن يسلب التفرد للخصوصية الثقافية . ونقرأ في نص رقم ( 5).
لستُ وحيداً
لكني ممتلىءٌ بالغربة يا الله
البيت الدافىء ممتلىءٌ بالأولاد
صبيانٍ وبناتٍ
ومعي امرأتي ايضا
لكنا منفيون بهذا البيت الدافىء
منفيون
الكلمات تشحُّ علينا
اصرخ يومياً
يا أولاد تعالوا
لكنَّ الاولاد بعيدون
بعيدون
البيتُ الضيِّقُ يجمعنا
لكنَّا منفيِّون
ومنعزلون
جزرٌ تتباعد عن أخرى
وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون
يصور النص الانعزال الالكتروني والتحول الثقافي في نمط العلاقات الإنسانية في تحديد شكل العلاقات الإنسانية سواء كانت في المنزل أو خارجه. فهو بمثابة سجن رمزي الكل منشغل في عالمه (هاتفه) يشارك كل فرد حياته التكنولوجية عبر تفضيلات وخيارات مغايرة ومتاحة ومتعددة، وكلما كانت الخيارات أكثر والبرامج والتطبيقات زادت العزلة أكثر. إذ أصبحت التكنولوجيا توفر الحرية والعزلة والتفرد في الآن نفسه. عبر إنتاج عوالم بصرية افتراضية لما ترغب ، يتم اشباع الذات الإنسانية افتراضيا عبر سلبها الوقت والمال . ونقرأ في نص رقم ( 8).
مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة
الالآف الكلمات
الذاكرة انطفأت هذي الليلة
كي يغفو الحاسوب بلا صرخات
ماذا يعني
أن تشطب أيامًا
وتحيل قصائد للنسيان
هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ
والإنسان بلا إنسان
يعود الشاعر في نصه إلى الذاكرة الإلكترونية في تعامل مع الحاسوب في تجذير خاصية المحو بوصفه حتمية الإلكترونية خارج نسق الوعي الإنساني ،في التعامل مع العبث الإلكتروني يؤسس للعبة المخاتلة في الكتابة، فيقدم الحاسوب تواطؤ افتراضي عنوانه النسيان في تلاشي اللغة والإبداع، إذ تفرض السلطة الإلكترونية أساليبها على الذات الإبداعية على وفق شروطها الجديدة ، فتدخل الذات الكاتبة في حالة صراع وسابق في تأكيد المحتوى وديمومتها .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |