![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
قحطان الفرج الله
2025 / 2 / 16
تجليات معاصرة لشخصية عتمان ابن الحبلة
قحطان الفرج الله / بغداد
عتمان بن الحبلة من الشخصيات التي نقلتها لنا سيرة الحاكم المملوكي الظاهر بيبرس، الذي حكم مصر والشام، وهو رابع سلاطين الدولة المملوكية ومؤسسها الحقيقي. بدأ مملوكًا يُباع في أسواق بغداد والشام، وانتهى به الأمر أحد أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط. لقّبه الملك الصالح أيوب بـ”ركن الدين”، وبعد وصوله للحكم، لقب نفسه بالملك الظاهر. حقق خلال حياته العديد من الانتصارات ضد الصليبيين والمغول، وقضى أثناء حكمه على الحشاشين، الفرقة المتطرفة المنسوبة للشيعة، كما استولى على إمارة أنطاكية الصليبية.
مما ورد في السيرة أن عتمان بن الحبلة كان سائسًا لخيول الظاهر بيبرس، وكان من بهاليل السيدة زينب، أي من المتدروشين. وأعتقد أن وصف “البهاليل” جاء نسبةً إلى البهلول (أبو وهب بهلول بن عمرو الصيرفي الكوفي، المشهور باسم بهلول، الذي ولد في الكوفة في العراق، وكان شاعرًا حكيمًا في زمن هارون الرشيد)، حيث مزج في آخر حياته بين الحكمة الفائقة والجنون. وهذا ما تتصف به شخصية ابن الحبلة. وأعتقد أن اللاحقة الوصفية التي وُصِفَت بها أمه تدل على سلوكها الشائن، فهي تستمر في الحمل سواء كانت على ذمة رجل أو من غير ذلك، أو أن اللقب يشير إلى انتفاخ بطنها الدائم لعلة أو مرض ما.
كان عتمان شديد الحيلة والدهاء، وكذلك مفرطًا في مواقف الفكاهة والسخرية السوداء، وهو إحدى الشخصيات الكوميدية البارزة في سيرة الظاهر بيبرس، حيث يُصوَّر كشخصية ساذجة، لكنه يمتلك نوعًا من الذكاء الفطري الذي يجعله ينجو من المواقف الصعبة. في السيرة، يؤدي دور المهرج الشعبي كشخصية ثانوية تُستخدم لإضفاء الترفيه على السيرة الملحمية الجادة. وظيفته الأساسية تنقسم إلى عدة أدوار، منها الكوميديا وكسر الجدية، فالسيرة مليئة بالمعارك والسياسة، لكن عثمان يضفي عليها روح الدعابة من خلال تصرفاته العفوية وسذاجته الظاهرة. فهو دائم الوقوع في مواقف محرجة أو مضحكة، لكنه ينجو منها بخفة دمه.
كما أن هذه الشخصية تمارس دور الناقد الاجتماعي المغلف بالسخرية السوداء، فكثيرًا ما ينطق عتمان بحكمة شعبية ساخرة وعميقة الدلالة، فينتقد فساد الحكام أو يسخر من قرارات المماليك أو يعكس مشاعر العامة بأسلوب طريف، ما يجعله لسان حال الناس في القصة. ومع ذلك، فهو يرسم صورة البطل العفوي غير المتوقع في بعض المواقف. يجد عثمان نفسه وسط أحداث خطيرة، لكنه ينجو منها بطرق غريبة وغير متوقعة، كالهروب، أو التصرف بعفوية، أو حتى استغلال سوء فهمه لصالحه، مما يجعله شبيهًا بشخصيات مثل “جحا”.
يمثل عتمان قمة الاتصال بالسلطة وروعة الانفصال عنها. فهو تابع لبيبرس، لكنه ليس جنديًا أو قائدًا عسكريًا من قواده. ليس محاربًا شجاعًا مثل بقية شخصيات السيرة، لكنه تابع للحاكم، وغالبًا ما يكون خادمه أو مرافقه في بعض المواقف. ومع ذلك، فهو ليس شخصية ذات نفوذ أو تأثير عسكري حقيقي، لكنه يمثل بعمق خطير أداةً للسرد الشعبي والتفاعل مع الجمهور، فتكون شخصيته عنصرًا محبوبًا لدى المستمعين.
في اختلاقه للأعذار وفي فطرية ردوده، يظهر تجربة السيطرة على دماغ الحاكم بطريقة غير مباشرة، مما يساعدنا على توظيف أداة القياس التي يمتاز بها العقل العربي، والذي يُوصف بأنه عقل قياسي، لنكتشف أبناء الحبلة الذين هيمنوا على مقدرات السلطة بكل أنواعها، وأدوار عالمنا الحديث، مازجين بين الدهاء والغباء، بين الحياة والبساطة، بين العلم والعبث، وبين الشرف والوضاعة. ولك أن تتخيل كيف وُصف عثمان وتجربته في ركوب حصان بيبرس الأصيل، كما ركب بعضهم في زماننا كراسي البلدان الأصيلة ومناصبها الحضارية الرفيعة.
ففي أحد الأيام، قرر عثمان أنه يريد أن يجرب الفروسية مثل الفرسان الحقيقيين، فاختار أقوى حصان في الإسطبل—وهو حصان بيبرس المفضل، المعروف بسرعته وقوته. لكن بمجرد أن صعد على ظهره، انطلق الحصان كالسهم، وبدأ عثمان يصرخ: “أيها الناس، أمسكوا الحصان، لقد أصابه الجنون!” بينما في الواقع، هو الذي لم يعرف كيف يسيطر عليه. ظل الحصان يجري في كل أنحاء القصر، يصطدم بالحراس والخدم، حتى سقط عثمان في بركة ماء، ليخرج وهو يصرخ: “هذا الحصان يعمل مع الأعداء!”
مشاركته في الأحداث تأتي دون قصد، فهو ابن الحبلة الذي قربته الصدفة، وكونه مرافقًا للخيول يجعله حاضرًا في المعارك أو الرحلات، لكنه لا يشارك في القتال، بل يتورط في الأحداث بطريقة غير متوقعة، مثل الهروب من المعركة أو التصرف بسذاجة تثير الضحك. يدير معارك مزيفة يصبح فيها بطلًا عسكريًا دون قتال حقيقي، فقد اختبأ أثناء معركة بين المماليك وأعدائهم، وبعد انتهائها خرج متفاخرًا بأنه هو من هزم العدو. وعندما سُئل عن كيفية قيامه بذلك، بدأ يروي قصة مختلقة عن كيفية “إرعاب” الأعداء بنظراته فقط، مما جعلهم يهربون!
كيف لنا اليوم أن نصدق دهاء أبناء الحبلة وكذبهم المفضوح، حين يعود أحد الحكام حاملًا العار، ويحتفل به الشعب قادمًا من أمريكا في المطار؟ عثمان الذي يبرر كل أفعاله المتناقضة بحلول مائعة، نشاهد من أمثاله اليوم ما لا يُحصى من “أبناء الحبلة”، الذين يبرعون في خلق الأعذار لإقناع الناس بعدم ارتكابهم للأخطاء التي تتطلب الاعتذار. فهذا عتمان، أخوهم الأكبر، الذي يحمل رسالة السلطان بيبرس إلى أحد القادة وهو لا يعي خطورتها وسريتها، لكنه بدلًا من تسليمها بشكل رسمي، يُسيء فهم المهمة ويستخدم الورقة لأغراض غير متوقعة، مثل مسح العرق أو لف الطعام بها. وعندما يسأله بيبرس عن الرسالة، يحاول التملص بكوميديا ساخرة، مدعيًا أنه كان يحميها بطريقة “إبداعية”.
فمتى تنتهي أم عثمان من حبلها المستمر وإنجابها المفرط؟ حينها فقط سيكون لنا حديث عن عالم مشرق خالٍ من أبناء الحبلة.